الأحد، 3 يوليو 2011

الجامع الأموي - قلب مدينة دمشق النابض


يتلازم ذكر دمشق مع معالم ثابتة فيها منها قاسيون والجامع الأموي والمرجة والحجاز.
 يعد الجامع الأموي تحفة فنية وهندسية نادرة النظير، وصرح عظيم خلد عظمة بُناته، الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة.. وفيه قبر النبي يحيى ومصلى النبي هود، له شأن عظيم في تاريخ دمشق والشام، فمنه جُيشت جيوش الفتح وصُد الغزاة على مر تاريخ طويل، وفيه ظهر العلماء والقادة العظام، وكان على الدوام ملجأ المجاهدين، ومنطلق حركتهم، في التاريخ البعيد والقريب.
قيمته التاريخية وظروف بنائه ارتبطت الحياة الأولى للإنسان بالتعبد لذلك تقدَّم نشوء المعبد على غيره من المنشآت، وتؤكد الحقيقة التاريخية أن دمشق أقدم مدن العالم، وبالتالي فإن معبدها الأقدم في التاريخ الإنساني.
ُقيم المعبد على حافة ربوة، يليه وادٍ صغير، حفر في أسفله نفق تُنقلُ من خلاله القرابين إلى الداخل،  ويرجع المؤرخ السوري عبد القادر ريحاوي تاريخ تأسيس هذا المعبد إلى الألف الثالث قبل الميلاد، اتخذه الآراميين معبداً للإله " حَدَدْ "، والرومان معبداً نُسب للإله " جوبيتر", في مطلع الألف الأول قبل الميلاد،  ويبدو الشكل الخارجي للمعبد مستطيلاً، وقد عرف بالمستطيل الإلهي أو المستطيل الذهبي، يحيطه سور خارجي بطول  ‏ (380م) له واجهات فخمة ومداخل عملاقة قامت على أعمدة عالية جداً لا يزال بعضها قائماً حتى اليوم، تجلى آثاره بالقوس الخارجي في منطقة " المسكيّة" الذي يعد بوابة المعبد، وبدخول المسيحية أواخر القرن الرابع الميلادي إلى سورية حوله الإمبراطور " تيودوسيوس"إلى كنيسة حملت اسم القديس " يوحنا المعمدان" أو النبي يحيى فيما بعد[1] ، وتشير المصادر بأن رأس النبي يحيى مدفون داخل حرم المسجد، وبعد الفتح الإسلامي اقتسم المسلمون أرض المعبد الكبير مع المسيحيين, وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من الخطأ الإشارة إلى الجامع الأموي بأنه الكنيسة ذاتها، والمُعتقد أن العرب  المسلمون  أقاموا مسجدهم الذي عُرف باسم مسجد الصحابة في الجانب الشرقي من أرض المعبد الذي فتحه خالد ابن الوليد عنوة عام 17 هـ,  وتركوا الكنيسة بكاملها للمسيحيين, لأنه لا يُعقل أن يُصل المسلمون مع  الأخوة المسيحيين تحت سقف واحد وذلك لاختلاف الشعائر بينهما، يقول " المهلبي" : بنى المسلمون الجامع إلى جانب كنيسة يوحنا المعمدان،  يجمعهما سور  معبد "جوبيتير", ويذكر المؤرخ ريحاوي "فيدخل الناس من باب المعبد الجنوبي، ليتجه المسلمون يمنة نحو الشرق إلى مسجدهم، ويتجه النصارى يسرة نحو الغرب إلى كنيستهم"، وظل هذا التجاور في العبادة 70 عاماً, فلما آلت الخلافة للوليد بن عبد الملك سنة 86 هـ-705م, أصبحت دمشق حاضرة الخلافة وبات من الضروري إقامة جامع كبير يليق بعظمة الدولة الإسلامية، وتبعاً لذلك جرت مفاوضات مع رعاياه من أهل الكتاب فتخلوا عن نصف المعبد لقاء حيازتهم لمناطق أخرى في المحيط المجاور.

وعندها قال فيه الوليد "إني أريد أن أبني مسجداً لم يبني من مضى قبلي, و لن يبني من يأتي بعدي مثله" وبدأ تنفيذ مشروعه المعماري الهام، مشيّداً الجامع وفق مخطط مبتكر، يلائم التطور الذي بلغه المجتمع الإسلامي، بشكل ينسجم مع متطلبات الشعائر الإسلامية، وأغراض الحياة العامة، فجاء فريدا في هندسته،  استغرق بناؤه عشر سنوات, وكان ثورة على ماكان سائداً قبله من البساطة والتقشف، أنفق في بناء الجامع 100 صندوق من الدنانير الذهبية، في كل صندوق 228 ألف دينار، ويروى أن وفداً بيزنطياً استأذن لزيارة الجامع أثناء مروره بدمشق, فأصيب بالذهول لما رآه من فنون العمارة المتألقة، فأشاروا :" أننا أهل روميّة نتحدث أن بقاء العرب في هذه البلاد قليل, فلما شاهدنا هذا البنيان أيقنا بأنهم باقون فيها و لا رجعة لبيزنطة إليها بعد اليوم" فلما أُخبر عمر بن عبد العزيز بذلك, قال: " ما أرى مسجد دمشق إلا غيظاً للأعداء", فتركه على ما كان.
إبداع فني وهندسي عظيم
يعد الجامع الأموي واحداً من التحف الفنية الهندسية، لامتداده على رقعة مساحتها الكلية 15229 متراً مربعاً، بأبعاد 157 ھ 97 متراً، وتبلغ مساحة الحرم 5032 متراً مربعاً بأبعاد 136ھ37 متراً، أما مساحة الصحن فهي 1350 متراً مربعاً بأبعاد 5،22 ھ60 متراًَ، محاط بأروقة شامخة ارتفاعها 35،15 متراً من جوانبه الثلاثة،  وللحرم أبواب من الجنوب مغلقة بأبواب خشبية تعلوها قمريات زجاجية ملونة مزينة بكتابات، بطول    160م وعرض 120م وارتفاع 24 م.

 تزينه قبة بديعة ترتفع نحو 44 متراً ، له40باباً داخليا وأبواب خارجية، يزينه40 عموداً داخلياً، و مثلها في الخارج ويبلغ عدد نوافذه من الجنوب 44 ومثلها من الشمال له ثلاث منارات رائعة الجمال، يحيطه به  سور ضخم من بقايا المعبد الروماني يرجع بناؤه إلى آلاف السنين حجارته كلسية على هيئة مداميك كبيرة الحجم، مزودة بدعائم، جددت أقسامه في العهود العربية، تزين بعض جدران صحنه الرحب فسيفساء بديعة بصور أشجار وقصور بديعة النظر، وينقسم حرم الجامع الأعظم إلى ثلاثة أروقة، تفصل بينها سواري ضخمة رائعة التصميم، حسنة الجمال، مَنّبره غاية في الحسن والإبداع، وفيه مقام نبي الله يحيى عليه السلام، وقد أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بالمحافظة على القبر في مكانه، وجعل فوقه عمود يختلف عن العمد الأخرى ليدل عليه، ثم أقيم عليه في وقت لاحق ضريح من الخشب، مزين بالنقوش، تعرض للحريق، فأعيد بناؤه بالرخام، وبجواره، داخل السور، مقام للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، بحسب رواية أهل الشام. وهو مفروش بالفاخر من السجاد.
للجامع الاموي بوابات ثلاثة تصله بجهات المدينة الثلاث, و هناك باب رابع في الحرم في الجانب الغربي منه يصله بالجهة الجنوبية من المدينة..
1-         باب البريد يعود للعصر المملوكي
2-         باب الزيادة عند منطقة القباقبية
3-         باب النوفرة يسمى باب جيرون سابقاً
4-         باب العمارة كان يدعى باب الفردايس بالقرب من مقام صلاح الدين الايوبي
و للجامع الأموي ثلاثة مآذن:
1-         المئذنة الشرقية " تسمى مئذنة عيسى" سميت كذلك للاعتقاد بأن سيدنا عيسى سينزل عليها عند قيامه،  و بسبب الكوارث و الحرائق التي لحقت بها, فتحت أمام المعمار العثماني ليترك بصماته فوق الصرح العمراني العظيم, فالقاعدة مملوكية و المئذنة عثمانية.
2-    المئذنة الغربية " تسمى قايتباي" هي أجمل مآذن الجامع الأموي, أصبح لها طابع مملوكي و هي المئذنة الأولى التي شُيدت في دمشق على الطراز المملوكي.
3-  المئذنة الشمالية " تسمى العروس" شيدها الوليد بن عبد الملك و جعلها مُذهبة من أعلاها لأسفلها, و تُعتبر من أجمل مآذن الجامع الأموي بعد مئذنة قايتباي, و مئذنة العروس،  تشبه  العروس لِما كانت تتلألأ بأنوار الفوانيس في المناسبات.
القيمة الدينية للجامع الأموي
حظي الأموي بقيمة دينية وروحية عالية، فهو يعد معلم ديني بارز، حيث يشير الشيخ نزار الخطيب إمام وخطيب الجامع الأموي عن بعض العلماء، بأن الجامع مقام في المكان الذي يقال بأن فيه وادي التين، الذي أقسم به الله تعالى في القرآن الكريم، في قوله جَلّ وعلا "والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين"[2]، وفي حرمه قبر النبي يحيى عليه السلام. بحسب ما أورد ابن عساكر في تاريخه نبأ العثور على قبر هذا النبي الكريم في المكان، أثناء تشييد الجامع، كما يوجد في جانب من الجامع الأعظم ضريح لسبط النبي عليه السلام، الحسين بن علي رضي الله عنهما، بحسب روايات بعض أهل العلم من أبناء الشام[3]، ويرقد بجواره الناصر صلاح الدين الأيوبي .
        لعب الجامع دوراً علمياٍ كبيراً فهو موطن لتدريس علوم المذاهب الإسلامية الأربعة المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، فكون مع المدارس المجاورة الملحقة به جامعة ضخمة، درست فيها علوم الدين واللغة والرياضيات والفلك والفلسفة، وسائر العلوم.
تخرج منه ثلاث من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، حفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة وأم سلمة، كما عَلم فيه صحابيات كخولة بنت الأزور ورفيدة الأسلمية، ودرّس فيه من العلماء والفلاسفة الكبار العلامة أبو بكر الرازي والخوارزمي والفيلسوف الشهير أبو نصر الفارابي المدفون في  دمشق.
ولم يقتصر الأموي في فعالياته على العبادة والتعلم، بل اجتمعت حوله وعند أبوابه فعاليات ونشاطات اجتماعية وسياسية وتجارية، وشيدت إلى جواره قصور الخلفاء والسلاطين، وأشهرها قصر الخضراء، ودار معاوية، ودار الخيل، وأسواق الطيب والعنبر والصياغة، ومصانع الحرير الدمشقي، ويشير بعض المؤرخين إلى وقوف الشرطة والوراقون وعاقدو الأنكحة والشهود، عند أبوابه، وهكذا ظلَّ المسجد مركزاً للحياة السياسية والثقافية والدينية لأبناء مدينة دمشق لفترات زمنية طويلة، فلم يكن مجرد مكان ديني للعبادة، بل كان له صفة سياسية وتعليمية واجتماعية.
تعرّض المسجد خلال تاريخه الطويل إلى كوارث طبيعة كالزلازل والحرائق المتكررة التي لحقت به من جراء الغزوات المتتابعة على مدينة دمشق، فكان الحريق الأول أيام الفاطميين سنة461هـ -1068م، حيث رميت المدينة بالنيران فاحترقت أجزاء منها،  ولحق بالمسجد الكثير من الأضرار حيث دمرت زخارفه وبعض لوحاته الفسيفسائية، كذلك تعرض لحريق ثان أثناء ولاية تكنز على دمشق740هـ-1339م، واحترقت المئذنة الشرقية عام794هـ. واحترق المسجد عام 884هـ-1479م ، ويقال بأن سبب الحريق قد أتى من الأسواق المحيطة بالجامع، أما حريق عام 1311هـ-1893م، فيعد الأكثر ضرراً، حيث نهض أهل بلاد الشام وبخاصة سكان دمشق مع اختلاف طوائفهم لإنقاذه،  فجمعوا التبرعات،  وتطوّع العمال وأهل المهن للمشاركة في إعادة بناء الجامع،  و تمَّ الترميم خلال تسع سنين، حيث لم تمسّ عملية ترميم أصالة الجامع، ولم تغير تخطيطه العام، إلا أن بعض التعديل الطفيف قد طرأ على بعض العناصر الزخرفية، ولكنها بقيت ضمن الخط الهندسي الأساسي، يعتقد المؤرخون احتراق مصحف عثمان فيه، لم يلق هذا الصرح المعماري العناية والاهتمام منذ ذلك التاريخ إلى أن أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد المرسوم الجمهوري رقم(36) تاريخ/6-10-1991م أمراً بإعادة ترميمه، لإبراز دوره الحضاري والإنساني والثقافي، فغدا قبلة السيّاح والمهتمين بفنون العمارة الإسلامية من كل أنحاء العالم.
متحف الجامع الأموي:
في ركن الزاوية الشمالية القريبة من الجامع أقيم متحف الجامع عام 1989، ويضم نفائس الجامع القديمة وبعض الأحجار والسجاد واللوحات الخطية الجميلة، مع مصابيح إنارة وقطع فسيفسائية وخزفية وزجاجية ونقود إسلامية وساعات وصفحات من المصاحف المخطوطة القديمة والكثير من القطع الأثرية الهامة في تاريخ الجامع العريق.



[1] - يقول ابن عساكر أنه في القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي تم ثبوت خبر العثور على قبر سيدنا " يحيى"في هذا المكان أثناء تشييد الجامع، و أمر الوليد بن عبد الملك  بالمحافظة عليه و يجعل فوقه عمود يختلف عن الأعمدة الأخرى ليدل عليه ثم أقيم عليه في عهد لاحق ضريح من الخشب مُزين بالنقوش و لكنه احترق مع الحريق الأخير فأُعيد بناؤه بالرخام كما هو حال مقام سيدنا يحيى اليوم.

[2] - مشيرا إلى أن الآية تحدثت عن مكانين واضحين هما جبل سيناء، الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام تكليما، والبلد الأمين، مكة المكرمة، فكانت الإشارة إلى التين والزيتون، باعتبارهما أيضا أمكنة، فوادي الزيتون يشير إلى بيت المقدس، ووادي التين يشير إلى المكان، الذي أقيم فيه الجامع الأعظم في دمشق الشام، والذي كان مصلى لرسل وأنبياء وصالحون كثر، خلال التاريخ، منهم نبي الله هود ونبي الله يحيى عليهما السلام
[3] - تشير روايات كثير من أهل الشام، إلى أنه جيء برأسه بعد مقتله في كربلاء، ودفن في طرف الجامع الأعظم. لكن روايات أخرى تنفي ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق