الاثنين، 11 يوليو 2011

د. ليلى الصباغ - خلقت لكي تكون علماً من أعلام العلم والفكر والأدب

  لطالما قدمت بلاد الشام عبر تاريخها مواطنين أكفاء استطاعوا تبوء مواقعاً بين عمالقة الإبداع، حيث تنوعت خدماتهم التي قدموها للمجتمعات التي أقاموا بين ظهرانيها، سواءاً داخل أوطانهم أو خارج حدودها، بتنوع مجالات اختصاصاتهم.
  ولقد اختيرت الفترة الواقعة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، لتميزها بالعطاء، حيث أنجبت سورية أجيالاً فاخروا بعروبتهم، حملوا هموم الأمة العربية، وتسلحوا بالقلم والبندقية، في سبيل الزود عن أوطانهم والحفاظ على الكرامة العربية، في خضم الأحداث الجسام لتلك الفترة وقفت ثلة من النسوة السوريات إلى جانب الرجل، مناضلات مكافحات في سبيل الاستقلال والحرية والوحدة العربية، وإن أُريدَ التفصيل، فإن البيان يعجز عن ذكر ما تحلت به أجيال هؤلاء من مناقب ومآثر حميدة.
وعلى الرغم من أن الكثر منهم قد غادرونا، إلا أنه مازال بعضاً منهم بيننا يمثل رمز من رموز ماض حي، يحث جيل اليوم على الإصرار لإحياء تاريخ مجيد، والاقتداء بإبداع السلف الصالح.
  في
مقامنا هذا آثرت الكتابة عن مآثر رمز من رموز الإبداع، مازال  عازماً على العطاء، وهنا لامجال للتمييز بين جنسين، فالعلم والفكر والأدب والفن وحتى الحياة الحربية، ليست حكراً على أحدهما.

 
المترجم لها هي زنبقة بلاد الشام، دمشقية أبصرت النور في حي الصالحية عام 1924، عاشت في بيئة محافظة، تحلت بكثير من الخلق والحزم والعزم والاجتهاد وحب المثابرة على البحث والتعلم، مسخرةً جُل حياتها لحبها الأكبر الوطن، من خلال منهج خاص سنته لنفسها لخصته في الثورة على كل ماهو قديم بفكر علمي عملي متحرر، وهنا لايقصد التحرر بمفهومه الحاضر.
  استطاعت في ذلك الزمن الصعب أن تشق طريقها بين بنات جيلها القلائل، متحدية مجتمع له فكره وتقاليده الراسخة، مسخرة إيمانها بالمثل العليا وإرادتها الصلبة، في سبيل ترسيخ منهج فكري تحرري .
هي واحدة من رائدات الفكر والأدب والتربية والتعليم، ناشطة اجتماعية وسياسية، اهتزت طرباً في عيد الجلاء، وهللت للثورة في مصر، كونها وجدت فيها بارقة أمل لتحرر العالم العربي بأجمعه من أنظمة الحكم المستبدة، وأكبرت الوحدة بين مصر وسوريا، إيماناً منها بأن قوة العرب في تماسكهم واتحادهم، فآزرتها قولاً وفعلاً، وبدا تضامنها مع حركات التحرر العربي ضد الاستعمار واضحاً من خلال ماقدمته من مؤلفات وبحوث في تاريخ العرب الحديث والمعاصر.
 

إنها مربية أجيال وأجيال، إنها الدكتورة ليلى الصباغ، مواليد الشام، ترعرعت المترجم لها في أحد أرقى أحياء دمشق، أتمت دراستها الثانوية فيها، عرف عنها الالتزام والجد والتفاني في تحصيل العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها، ونظراً لتفوقها ابتعثت إلى مصر، حيث نالت إجازتها الجامعية من كلية آداب جامعة القاهرة قسم التاريخ عام 1947، لتعود إلى سورية فيما بعد لتعمل في التدريس والإدارة في العديد من المدارس الحكومية عام 1952، دفعها طموحها لمتابعة مسيرتها العلمية، لتحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في تاريخ العرب الحديث عام 1961.
 
تبعت وزارة التربية والتعليم، تولت إدارة مدرسة التجهيز الثانية للبنات بين عامي 1954- 1963 فعملت جاهدة على جعلها إنموذجاً يحتذى لكل المدارس السورية، وذلك من خلال العمل على إدخال نشاطات تربوية جديدة لم تكن موجودة قبلاً.
    ونظراً لكفاءتها شغلت منصب مفتش خبير موجه لمادتي التاريخ والجغرافية في الإدارة المركزية بوزارة المعارف عام 1963، لتنتدب أستاذ زائر في جامعة الجزائر عام 1966، حيث استغلت إقامتها في الجزائر في تحصيل المزيد من المعارف، فكثر نتاجها العلمي ليظهر في الدوريات التعليمية المتخصصة في التاريخ وبخاصة الإسلامي منه.
 عملت بين سنتي 1968-1971 في مديرية البحوث التابعة لوزارة التعليم العالي السورية، إلا أن مهنة التعليم كانت تجري في العروق، فعادت بكل ماتحمل من زخم علمي ومعارف وخبرة اكتسبتها خلال سنين طوال قضتها في البحث العلمي،  للتدريس في جامعة دمشق، وهنا لابد لنا من وقفة، أعطت د. الصباغ أجيال متتالية خلاصة فكرِ جيل الزمن الجميل، لم تكن أستاذ فحسب بل كانت مربية فاضلة، تعلمنا من خلال رعايتها لنا الخلق الحسن، والالتزام والجدية في البحث، والمنهجية العلمية في الكتابة التاريخية، صدقها وتفانيها في إيصال المعلومة لطلابها، أعطاها هيبةَ ووقار العالِم، كنا نهابها ولكن كنا ومازلنا نكن لها في قلوبنا حباً واحتراماً.     
شغلت منصب أستاذ زائر في جامعة العين في الإمارات العربية المتحدة عام 1993، عمدت الدكتورة الصباغ على نشر العلم والمعرفة أينما وُجدت، فكانت مرآة صادقة تعكس صورة ثقافة وفكر المرأة السورية في كل محفل علمي شاركت به.

 تعد الدكتورة الصباغ من رواد الفكر في الوطن العربي،  حيث استطاعت أن تجمع بين الأدب والتاريخ، بمنهجية علمية قل نظيرها، وبجهد مستمر وحتى اليوم مازالت الدكتورة الصباغ تخط بقلمها مخزونً فكري متألق بصياغة أدبية متميزة، تاركةً بصمات واضحة في المجالات التي عايشتها، فكانت أهلاً للتكريم أينما وجدت، وتقديراً لجهودها في مجال التعليم، قامت لجنة الأكاديميين العرب بتكريمها عام 2000  من خلال التصويت لها كعضو في مجمع اللغة العربية في دمشق، خلفاً للطبيب الراحل الرئيس الأسبق للمجمع العلامة أنس سبح( 1900-1986) لتكون العضو النسائي الأول في المجمع منذ تاريخ تأسيسه عام 1922. 
 للمترجم لها العديد من المؤلفات في اختصاصات مختلفة، إلا أنها استطاعت التركيز بصورة  دقيقة على منهجية البحث التاريخي، حيث اعتمد كتابها " دراسة في منهجية البحث التاريخي" كمادة تدرس في جامعة دمشق، كذلك تناولت أبحاثها، الثقافة، المجتمع، السياسة ، لكنها وجهت جل عنايتها من خلال مؤلفات عدة إلى دور المرأة في السياسة والأدب والإصلاح في المجتمع العربي في فترات مختلفة، ولم تكتف بالبحث والتأليف في التاريخ العربي والعثماني، بل تجاوزتهما في مؤلفها تاريخ أوروبة في العصر الحديث، الذي اعتمد تدريسه في جامعة دمشق، لتدعم من خلاله تداخل الحدث التاريخي ونتائجه .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق