الأربعاء، 29 يونيو 2011

قلعة دمشق

يهيأ للناظر إلى قلعة دمشق، أن كل شيءٍ فيها يتكلم، من خلال أطيافِ أٌناس عاشوا في كل زاوية فيها، المكان ينبض بهمسات اتسز وتتش ونور الدين وصلاح الدين والظاهر وجندهم والحاشية، وحتى المنجنيق الجاثم في ساحتها الفسيحة يناديك ليقول، أنا من كنت أصول وأجول لأحمي قلعتي والمدينة، بهذه الكلمات أبتدئ وصف قلعة دمشق، التي تعد تحفة من تحف فن البناء المعماري عبر تاريخها الطويل ومعلم أثري على مر العصور.
تاريخ البناء
تعود أقدم سوية فيها إلى عام 2600 قبل الميلاد، وبالرغم من أنه لم يأتِ ذكر للقلعة في الفترة الرومانية إلا أنه من المرجح أن تكون بناء روماني بني ليكون مركزاً لفرقة الفرسان الرومانية المتمركزة في دمشق، وفي الفترة الإسلامية الأولى لم تكن القلعة لافتة، إلا أنه بقدوم الأمير السلجوقي أتسز بن أوق الخوارزمي التركماني وانتزاعه دمشق من أيدي الفاطميين عام1076م, أمر ببناءها في الزاوية الشمالية الغربية لمدينة دمشق القديمة، استُعمل في بناءها حجارة سور دمشق الروماني المهدم.
كان الهدف من بنائها جعلها مقراً للقيادة العسكرية ومركزاً لإيواء الجند وحصناً لمواجهة التمردات الداخلية، وفيما بعد أكمل الأمير تتش بن ألب أرسلان عام 1078م البناء، ويعتقد أن السلاجقة اعتمدوا القلعة كحصن دفاعي خارجي بسبب تهدم سور دمشق، وعلى هذا فقد قاموا بتجديد القلعة وإضافة بعض المنشات إليها لتأخذ شكلاً مستطيلاً بدلاً من شكلها الأصلي المربع.
وفي الفترة الأيوبية أضاف السلطان نور الدين محمود زنكي أبنية دفاعية جديدة للقلعة بعد أن أمر بتحصين المدينة، وترميم أسوارها، ليتسلمها صلاح الدين الأيوبي صلحاً عند دخوله دمشق عام 1174م، ويجعلها مقراً لحكمه بعد ترمّمها وإضافة أبنية أخرى إليها، وليدفن في قسمها الغربي عام 1193م ، وينُقل جثمانه بعد ثلاث سنوات إلى المدرسة العزيزية بجانب الجامع الأموي، أمر الملك العادل بن أبي بكر بن أيوب شقيق صلاح الدين 1202م بهدم القلعة، لعدم قدرتها على التصدي للجيوش الصليبية التي كان يعد نفسه لمواجهتها، لذلك حرص على إحاطة القلعة القديمة بخط دفاعي جديد قبل البدء بعملية الهدم، ولقد استمرت عملية البناء 15 عاماً من العمل الشاق المضني، حيث شارك سكان دمشق الأمراء الأيوبيين في عملية البناء، بعد أن اختص كل منهم ببناء جانب من سور القلعة أو برج من أبراجها، وعليه جاءت القلعة الجديدة آية في فن العمارة و التحصين العسكري، سواء من حيث القوة والمنعة أو ضخامة الأبراج أو المساحة، لكنها حافظت على الشكل المستطيل ذي الأضلاعغير المستقيمة، التي تراوحت أبعادها بين225 م إلى 260 م طولاً و 120 م إلى 165 م عرضاً، مع الإبقاء على بعض المنشات، لتبلغ مساحة القلعة 33176م2.
سُميت القلعة المنصورة، احتوت بين جدرانها الحجرية السميكة مدينة صغيرة، ضمت مقر الحكم، وقصر الحاكم المؤلف من طابقين وعدد من القاعات الصغيرة ، ومسجد، ومدرسة، ومصنع للأسلحة، وأبراج للحمام الزاجل، ودار لصك النقود، وسجن، وحمّام، ومنازل للأعيان، وما زالت قاعة العرش الماثلة بألقها المتميز، تروي لزائريها، قصص مَن ارتادها مِن الحكام والعلماء والفلاسفة، كعماد الدين الأصفهاني وبهاء الدين بن شداد.
اهتم السلاطين الأيوبيين بعد الملك العادل بصيانة القلعة وترميمها وتحصينها، وكان من أكثرهم اهتماماً أبناء الملك العادل عيسى والصالح إسماعيل والملك المعظم، ثم أخوه الملك الكامل.
صمدت قلعة دمشق أمام هجوم هولاكو المغولي عام 1260م، ولكنها سقطت بعد حصارها وضربها بالمنجنيق، فهدمت بعضاً من أجزائها، ونهبت، وأعدم واليها، لتعود بعد هزيمة المغول على يد الظاهر بيبرس في معركة عين جالوت، كمقراً لنائب السلطان الأمير علاء الدين سنجر الحلبي، رممت وحصنت في عهد الظاهر بيبرس، الذي تُوفي فيها، ونُقل جثمانه إلى المدرسة الظاهرية فيما بعد، استمر المماليكبتحصينها والاهتمام بها خلال حكمهم بين (1259- 1516م)، واستعملت في الفترة العثمانية (1516-1918)، مقراً للجند الإنكشاريةوالدالاتية وآغا القلعة، وكانت في فترات مختلفة مقرا للوالي والحاكم في دمشق، لتصبح فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا ( 1920-1946) سجناً مدنياً، ومقراً لبعض عناصر الشرطة.

ثم أخليت بعد بناء السجن المركزي، وبدأ بترميمها منذ تشرين الثاني 1984، لتكون معلماً سياحياً مهماً من معالم دمشق الخالدة.
تخطيط القلعة
هي نموذجاً متميزاً للعمارة العسكرية الأيوبية، امتدت ما بين باب الفرج شمالاً وباب النصر غرباً، تنفرد عن بقية القلاع بمحاذاتها لسوية أرض المدينة القديمة، يحيط بها سور بسماكة تتراوح بين 4 و 5م، وخندق بعرض 20م.

أبراج القلعة
ومن أهم معالم القلعة الأبراج السبعة الموزعة على محيطها والتي أنشئت في فترات زمنية متعاقبة وبأشكال مختلفة تتناسب مع الوظائف التي أنشأت من أجلها، أهمها برجان مستطيلان بُنيا فترة الملك العادل أبعاد كل منهما 13×26م، ، يتألف كل واحد منها من ثلاث طبقات، في كلٍ منها خمس فتحات للرمي، وحول كل سطح حواف، تعلوها كوات مستطيلة مسننّة.
تميز برج الزاوية الشمالية الشرقية، بكونه برج متقدم للدفاع، نقشت على واجهته الشرقية كتابة بالخط النسخي تعود للعهد الأيوبي، وقد أُحدثت فيه في القرن 16م فتحة مستطيلة للرمي،
ووخلف الأبراج والبدنات ممر دفاعي مسقوف يؤمن الاتصال يبن جهات القلعة الأربع .
فيها 12 برجاً بين مستطيل ومربع، تألف كل برج من عدة طوابق، في كل طابق ردهة واسعة، معقودة بالحجارة الضخمة المدببة، جهزت برواشن بارزة، لصب السوائل المغلية، والقذائف المشتعلة، وعددها بين 4 و5، في أعلى الأبراج أفاريز، وحواف مدرجة، وأبواب مقرنصة، اعتمد معمار القلعة وهندستها على الكتلة البنائية الضخمة للأبراج فأحجار الأبراج هي أحجار ذات بطون لامتصاص صدمات القذائف الموجهة إليها، أما مرامي النبال فعبارة عن فتحات مستطيلة ضيقة، أصبحت في القرنين 12 و13 على شكل محاريب بين جدارين مائلين بشكل متعاكس، زودت القلعة بممر مسقوف بالقبوات المتصالبة حول كامل محيطها الداخلي مع ممشى على سطحه، تألفت جدران القلعة من ثلاث طبقات، جعلت سفوحها السفلية مائلة، وسماكتها ثلاثة أمثال غيرها، وكذلك صممت نهاية الأعمدة بشكل أفقي لدعم الجدران، ونحتت الحجارة بشكل بارز بمقدار 10-30سم لمقاومة ضربات المنجنيق، وأحيطت قاعدة الجدران بإطار حجري عرضه 5سم، لجعل القلعة أكثر منعة وقوة.
أبواب القلعة
للقلعة أربعة أبواب، اثنان منها رئيسيان، هما الشمالي والشرقي، وآخران فهما سرّيان، يُؤديان إلى خارج القلعة.
· باب الحديد في سورها الشمالي (جميل له مقرنصات نُقشت عليه قرارات عسكرية وإدارية) محاذي لنهر بانياس وهو عبارة عن بابين، أحدهما خارجي، جُدّد في القرن 15م والآخر داخلي، والممر بينهما معقود بالحجارة.
· باب جسر الخندق الشرقي و هو الباب الرئيسي يفتح عند سوق ابن أبي عصرون (سوق العصرونية) وكان له جسر خشبي متحرك، واستعمل هذا الباب للدخول والخروج إلى دار الإمارة، عرض الباب 266سم ويقع ضمن إيوان، عرضه 4.21م وعمقه 2.20م. ويقع الباب بين برجين متقاربين المسافة بينهما عشرة أمتار فقط.
· الباب الغربي (أو باب السر) ويقع غرب القلعة، ويُفتح على منطقة السنجقدار حالياً، كان السلاطين و الأمراء و الولاة يدخلون و يخرجون منه سراً.

· باب السر الجنوبي الواقع مقابل دار السعادة و المغطى حاليا بمباني سوق الحميدية، وللبابان جسور متحركة فوق الخندق في الغرب وفي الجنوب.

ويحيط بالقلعة خندق عميق يملأ بماء بردى المجاور أثناء الحصار، وقد استمر السلاجقة و الأيوبيون في استثماره والاعتناء به، تم توسيعه عام1214-1216م ليصبح بعرض 20 متراً، وقد يضيق ليصل إلى 5 أمتار، وقدردم الخندق إلا من الجهة الشمالية حيث أصبح مجرى لنهر العقرباني.
زودت القلعة بالمياه بجر مياه نهر بانياس النظيفة إلى داخل القلعة من خلال قناة تحت الأرض تدخل من الجهة الغربية وتتوزع على الحمامات والدور و المسجد والبرك، بالإضافة إلى ماء النهر فقد أكدت المصادر التاريخية وجود آبار احتياطية داخل القلعة لاستخدامها في حال قطع المحاصرون ماء النهر .

تعرضت القلعة إلى العديد من الكوارث كهدم بعض أجزائها نتيجة الزلازل أو العمليات الحربية، كقصف القوات الفرنسية لها إبان العدوان على دمشق سنة 1945م، الذي أدى إلى هدم جزء منها وإحراق دور كثيرة في منطقة العصرونية والأحياء المجاورة للقلعة.
دور القلعة السياسي والعسكري والاجتماعي:
لعبت قلعة دمشق في العهدين السلجوقي والأيوبي أدواراً سياسية وعسكرية متفاوتة في الأهمية فقد كانت مقراً للسلاطين نور الدين وصلاح الدين والملك العادل، شكلت مركزاً للنشاطات السياسية والعسكرية في الفترة الأهم من الحروب الصليبية، تألقت في العهد المملوكيلكونها قلعة السلطان ورمز سلطته في حضوره وغيابه، حيث شكلت البؤرة الرئيسة لمراكز البريد في بلاد الشام، لكونها حلقة الوصل بين النيابات ومقر السلطنة قلعة القاهرة، حيث تفرع منها خطان بريديان رئيسان إلى قلعتي البيرة والرحبة، باعتبارهما من مدن المواجهة مع الصليبيين والمغول.
استعملت أسلحة مختلفة للدفاع عن القلعة، من أهمها المنجنيق، والمكحلة (المدفع) استعمل فيه كحل البارود، وقواريرالنفط والنشاب.
كانت القلعة في حالة السلم مدينة مكتفية، ففيها سكانها وجنودها وموظفوها وفقهائها، ولها صندوق مال مستقل، ومركز للبريد، ومخازن للمؤن، وسجن ومسجد، وطاحونة، عدا القصور والبيوت.
وفيما بعد حرمت القلعة في العهد العثماني, من دورها السياسي و تحولت إلى ثكنة عسكرية وفقدت استقلاليتها .
أهم المنشآت المدنية التي مازالت حتى الآن

جامع أبي الدرداءوهو قاعة واسعة تتصل بالبرج الشمالي المتوسط، وإلى جانبها إيوانان صغيران، ويعلو القاعة قبة وفي الحرم ضريح ينسب إلى الصحابي أبي الدرداء.
القصر بناءكبير يمتد خلف الممر الدفاعي الجنوبي بطول 80 متراً، يتألف من طابقين بارتفاع 15.5متراً، في كل طابق ستة أواوين، يتكون من قاعات عدة، مسقوفة بعقود متقاطعة ولها أبواب،وثمة قاعة تتوسطها قبة.
محيط القلعة
قديماً أطلت القلعة من جميع جهاتها على مناطق منبسطة خالية، يحيطها خندق، ومنطقة سوق السروجية (هدم قسم منه عام1970 ) من الشمال، ومن الغرب طريق يوازي الخندق الذي ردم لينشأ سوق الخجا، ومن الشرق ردم الخندق في أواخر العصر العثماني وأقيم فوقه سوق العصرونية الذي أزيل عام 1983، والتصقت بجدار القلعة محلات تجارية باستثناء باب القلعة الذي أصبح بابا للسجن، أما من جهة الجنوب فكان سوق الأروام يحاذي الخندق، ليترك مجالاً لظهور أجمل واجهات القلعة، وفيما بع ردم الخندق وأقيم سوق الحميدية.
أعمال الترميم
تمّ بين عامي 1982 - 1985 إخلاء القلعة من الشرطة، وأزالة الأبنية المضافة وبخاصة السجن، و إجراء سبر وتنقيب في ساحة القلعة، وأعيد بناء البرج الجنوبي الغربي كاملاً ورممت الأسوار الشمالية، وأبرزت أجزاء القلعة السلجوقية المتقدمة عام 1988.
سعت المديرية العامة للآثار للحفاظ على الآثار من خلال التعاطي معها لإظهار جماليتها، وتقديمها للعالم كثروة تاريخية وسياحية قادمة من الماضي، وحاضرة كإرث قيم يتم استثماره للأجيال الحالية والمستقبلية.
هذا وقد عثر خلال الأعمال الأثرية للقلعة وعمليات الترميم على اكتشافات مهمة ساهمت في تقديم معطيات تاريخية ومعمارية وأثرية مهمة من بينها القاعة الأيوبيةالمناظرة لقاعة العرش والخوذ المملوكية والحمام المملوكي والبقايا المدفنية العظمية التي تعود لمنتصف الألف الثالث قبل الميلاد والبوابات الجانبية العائدة إلى القلعة الأيوبية.
تفسير بعض الكلمات الواردة في النص :
شرفات بارزة، مرمى النبال، رواشن: وهو عنصر معماري عسكري يوجد في أعلى البناء، يبرز عنه وهو موضع لرمي السهام وتظهر به فتحات سفلية لإسقاط السوائل الساخنة على الأعداء.
الإنكشارية: أطلق اسم الإنكشارية على طائفة عسكرية من المشاة العثمانيين ، يشكلون تنظيمًا خاصًا، أعظم فرق الجيش العثماني وأقواها جندًا وأكثرها نفوذًا.
الإيوان هو قاعة مسقوفة بثلاثة جدران فقط والجهة الرابعة مفتوحة تماما للهواء الطلق أو قد تكون مصفوفة بأعمدة أو يتقدمها رواق مفتوح وتطل على الصحن أو الفناء الداخلي.
البدنات والمفرد بَدَنة: عنصر معماري دفاعي يصل بين العناصر الأخرى كعضادة كبيرة .
الشراريف: أو الشرّافات عنصر تزييني قادم من بلاد الرافدين ، عبارة عن مروحيات تعلو السور و تأخذ الشكل المتدرج كما في أعلى حائط الجامع الأموي في دمشق ومحراب معبد عمريت في طرطوس.
سوق الأروام: سوق الأروام فقد كان سوقاً موازياً لسوق الحميدية من الجنوب، وسمي بذلك نسبة للأتراك الذين أطلق عليهم في عصر المماليك اسم الأروام، لأنهم قطنوا القسطنطينة .
المراجع:
الندوة الدولية، دمشق في التاريخ، وزارة التعليم العالي، دمشق، 2006.
قتيبة الشهابي، دمشق تاريخ و صور، مؤسسة النوري للطباعة والنشر, دمشق, .1994






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق