الأحد، 23 أكتوبر 2011

المهندس خليل الفرا = تاريخ مدينة في حياة رجل

المهندس خليل الفرا- تاريخ مدينة في حياة رجل
منذ سنين عدة وأنا أبحر بمركبي في محيط السير الذاتية فتارة أدخل بحر الفكر والأدب   في وتارة أبحر في بحر أرباب المهن، وتارة أدخل بحور أهل العلم.
ومن خلال تجوالي وجدت الذاكرة تومض  بتذكر البعض من خلال أدب أو فن أو علم، لكن من النادر أن يذكرك كل ركن في مدينة بصاحب فضل أسهم في تاريخ التطور المعماري فيها. وعليه يكون الحال تاريخ مدينة في حياة رجل، المدينة هي دمشق والرجل هو ابنها شيخ مهندسي عصره الأستاذ خليل توفيق الفرا.
ولد خليل الفرا في حي القنوات في مدينة دمشق عام 1914 والده هو الشيخ الفاضل توفيق الفرا من أفاضل أهل زمانه مشهود له بالخلق والعلم والفضل، وبالرغم من وفاة الأب الحاني مبكراً إلا أنه أورث أبناءه الخلق وحب العلم، واستزادوا هم من خلقه الحسن من خلال تواصلهم مع أصدقاءه وسماعهم عن مآثره الحميدة. التي طالما استأنس بها المترجم له؛ ووطن النفس بالسير في ركابها.
درس الابتدائية مدارس دمشق لينال الشهادة الثانوية من مكتب عنبر بتفوق عام 1931؛ ليقول هو: بأنه في عصر يوم 18 حزيران عام 1936، في حفل توزيع الشهادات في باحة المدرسة الفرنسية للمهندسين في بيروت تناوب مع خريجي المعهد على المنصة لأداء القسم المعتاد "أقسم بالله العظيم أن أزاول مهنتي بصدق وأمانة".
وعليه بدأ حياته العلمية من مدينة بيروت ،شركة أنطون ثابت الهندسية، ليتوجه بعدها للعمل في الشركة الفرنسية الخطوط الحديدية، وبتوجيه من أخيه الأكبر جمال الفرا غادر بيروت 1938 إلى مسقط رأسه دمشق، ومن محافظة دمشق استعد ليبدأ رحلة عمل جديدة ،من دائرة الأشغال، وبرفقة كل من المهندسين كاظم لجزا، وأديب الحلواني، بدأ مشواره بالأشراف على أشغال التعهدات التي شملت الأبنية والأرصفة والطرقات وأسقية والمجاري؛ وعليه احتضنت شوارع  دمشق أبناءها المهندسين، وكان منهم خليل الفرا الذي أخذ يعمل بجد برفقة المهندسين فيليب أسود وإبراهيم الكاتب.....
عاصر المهندس خليل الفرا بداية تنظيم مدينة دمشق بين عامي 1936-1960.
 من أهم ماأسهم في تنفذه فيها في الأربعينيات فتح شارع أبو رمانة وخالد بن الوليد وشارع المجتهد وامتداد طريق بيروت إلى مشفى المواساة حيث اخترقت هذه الشوارع البساتين الكثيفة التي كانت تحيط بالمدينة.
ليفيد هو بدوره وكان العمل شاقا – ترأس العمل المهندس فيليب أسود – ونفذ عبد الرحيم حواصلي  نذير شورى واليوناني مستكاذ والروسي دافيديك، ليقول اختلف عملي في المحافظة على عملي السابق ،فتوسعت معارفي بفضل ماحباني به المهندسين جزار وحلواني من الارشاد و التوجيه. وبالرغم من وجودي في دمشق إلا أن صلتي لم تنقطع مع المهندس أنطون ثابت في لبنان – وكان لنا أعمال مشتركة في دمشق منها – بناء سينما دمشق وفندق قطان والفندق الأموي حالياً - لينتقل إلى القول كان العمل شاقاً خلال الحرب العالمية الثانية لنقص المواد الأولية وصعوبة تأمينها – لتزايد الطلب عليها لسد حاجة الجيوش الحليفة في المنطقة في إقامة منشآتها الخاصة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945بدأ عهد جديد من الحرية ولاحت في الأفق بوادر الانفتاح والازدهار وكان للنشاط العمراني حظاً وافراً من الازدهار نتيجة لوجود ثروات طائلة خلفتها ظروف الحرب، وما رافقها من تنظيم مدينة دمشق وما نتج عنه من توسع.
في العام 1947 توجه خليل الفرا إلى العمل الخاص – وبدأ مشواره العملي الفعلي في دمشق – فكان هو المصمم والإنشائي المشرف أحس بحب الوطن وأحس بمتعة العمل، كان متواضعاً أميناً أعتمد الأمانة في التنفيذ العملي لمشاريعه وعليه بدأ مسيرته ببضعة مشاريع خاصة نفذها في دمشق وفيما بعد رُشح للإشراف لتنفيذ بناء شركة التبريد السورية في سوق الهال، ونظراً لتفانيه في العمل أوكلت إليه الشركة لاحقاً مهمة تنفيذ مشاريع عدة؛ منها مستودعات ومشاتل تخص الشركة في منطقة البرامكة. وهكذا توسع مجال العمل ليشمل إلى جانب الأبنية الخاصة أبنية تجارية وصناعية إلا أن الطموح كان كبيراً ليدخل مجال تنفيذ دراسات تدفئة منها التدفئة المركزية لكل من قصر العدل وسرايا الحكومة بالتعاون مع المهندس سليمان أبو شعر.
في العام 1951، قدم المهندس خليل لمشروع بناء نادي الشرق(الخاص بالمغفور لهما حبوباتي وشماس) في أرقى أحياء دمشق. ونفذ المشروع بفترة زمنية غير مسبوقة وما يزال نادي الشرق في قلب المدينة معلماً من معالمها ومركزاً مرموقاً للنشاطات الاجتماعية والرسمية والخاصة.
ودائما يتفوق الطموح والعلم ليظهرا في تعاقد خليل الفرا على دراسة مشروع بناء مبنى البريد في دمشق بالأشتراك مع مكتب المهندس أنطون ثابت في بيروت.
وهنا لابد من ذكر السيد توفيق الحياني رجل الإدارة محافظ دمشق الذي أعجب بالتصميم الأولي ليوافق عليه فيما بعد- نور الدين كحالة الأمين العام لوزارة الأشغال- وتبعاً لإمكانيات الموازنة أقر السيد فؤاد الحلبي خلف السيد الحياني في مديرية البريد تنفيذ المشروع.
ومما يجدر بنا قوله أن وزارة الأشغال العامة ضمت خيرة الأردنيين والمهندسين إلا أن النهضة المعمارية التي شهدتها دمشق كانت فوق طاقة الكوادر الموجودة فيها لذا استعانت الوزارة بالمكاتب الهندسية الخاصة.
في تلك الفترة نفذت الوزارة – بناء البرلمان- بناء وزارة الصحة –بناء الدوائر العقارية، فندق بلودان الكبير، وفي حلب بناء السرايا الحكومية وبناء المكتبة وفي حمص بناء السرايا. كان التنفيذ متقناً والتصميم بديعاً تميز بطابعه العربي المميز.
ليقول: أدى اشتراك المكاتب الخاصة في مشاريع القطاع العام إلى توسع هذه المكاتب وتقدم سويتها – من أهم مشاريع تلك الفترة مبنى القصر العدلي، مبنى إدارة مصلحة عين الفيجة من أعمال المهندس عبد الرزاق ملص مبنى بناء المواساة المهندس منيب الدردري ونتيجة لتتنظيم وتخطيط مدينة دمشق الجديد ، ظهرت أحياء جديدة كحي أبو رمانة وعين الكرش والقصاع.
وتستمر رحلة العطاء والبناء- في أواخر 1950 – تولى المهندس خليل الفرا الأعمال الإنشائية الجديدة وصيانة القديمة لجامعة دمشق بموافقة الدكتور قسطنتين زريق رئيس جامعة دمشق؛ وتم تصديق العقد المنظم بموافقة موقعة من رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي واستمرت أعمال انشاءات الجامعة السورية إلى الثمانينيات تولى رئاسة الجامعة في تلك الفترة كلاً من الدكتور قسطنتين زريق- سامي الميداني -شوكت القنواني – حكمت هاشم- أحمد السمان- عمر باشا- شاكر الفحام- عبد الرزاق قدورة – محمد الفاضل –مصطفى حداد – مدني الخيمي- زياد شويكي.
كانت فترة الثلاثين عاماً تلك فترة مثمرة،  ومنتجة بدأً من مشروع مدرسة التمريض والقبالة بجوار دار التوريد القديمة - تبرعت بإنشائهما السيدة كرجية حداد تخليداً لذكرى زوجها المتوفى أسعد الحداد؛ الحمصي الأصل المهاجر إلى البرازيل-.
وقد تم تدشين البناء عام 1953 بحضور رئيس مجلس الوزراء سعيد الغزي- تلا ذلك بناء مكتبة الجامعة جنوب باحة الثكنة الحميدية – يقابلها من الجهة الشمالية نادي الطلاب- وأبنية العيادات الخارجية –التصوير الشعاعي؛ وبعد قيام الوحدة عام 1958 بدأ العمل بدعم من الدكتور حكمت هاشم في إنشاء قسم الكيمياء في كلية العلوم –وبناء الوحدة السكنية الأولى للطلاب في المدينة الجامعية ووضع حجر الأساس بحضور الرئيس جمال عبد الناصر شباط 1961؛ وتتابع العمل بإنشاء كلية الهندسة القسم المدني وبعد عام 1970 قام المهندس خليل الفرا بدراسة المخططات وتنفيذها لكل من مباني كلية الآداب، كلية الزراعة بكافة أقسامها والتي تم افتتاحها بحضور الرئيس الراحل حافظ الأسد عام 1974وليتابع نهضة دمشق العمرانية  بإنشاء كل من مباني كلية الهندسة، قسم الفيزياء في كلية العلوم ، دار التوليد وأمراض النساء بناء الإسعاف والعيادات في مشفى المواساة بناء الطب النووي وبناء مشفى الأطفال الذي دشنه الراحل حافظ الأسد عام 1978- وعدة أبنية سكنية للطلاب والطالبات في المدينة الجامعية.
رشح المهندس خليل الفرا لعضوية مجلس الأوقاف  عام 1951 بدعوى من عبد الرحمن الطباع مدير أوقاف دمشق أصبح خليل الفرا عضواً برفقة بدر الدين الشلاح والشيخ أحمد الدقر والمحامي أحمد العظم والسيد زكي قطان برئاسة مفتي الجمهورية الشيخ أبو اليسر عابدين  تعاون الجميع على النهوض بهذه المؤسسة المهمة ذات الأهداف النبيلة وبأعضاء ورئاسة المرحوم الطباع توسعت الخدمات الخيرية لمديرية الأوقاف.  ويورد الأستاذ خليل القول وكان لزاماً علي المساهمة في مجالي فأقر تنفيذ إنشاءات على ثلاثة مواقع تملكها الأوقاف منها ثلاثة أبنية تجارية في السنجقدار ومشروع بناء جامع تكنز ومشروع بناء تجاري تشغل طوابقه العليا حالياً وزارة الزراعة –أعلى شارع الحجاز- تمتع المهندس خليل الفرا بروح المشاركة فتراه دائماً يذكر أصدقائه بالخير وفي مقامنا هذا يذكر صديقه المهندس مكين المؤيد وما كان يتمتع به من خُلق واستقامة وتواضع. ويأسف خليل الفرا على تعثر مشروع جامع يلبغا في ساحة المرجة رغم انقضاء خمسين عاماً على مباشرة خطواته الأولى.
خليل الفرا في المجلس البلدي: كذلك رُشح ليكون عضو المجلس البلدي لمددينة دمشق برئاسة صبحي كحالة رئيس الدائرة الفنية حيث تم تنظيم مناطق عمرانية جديدة بين عامي 1948-1953.
 كذلك شارك المهندس خليل الفرا عام 1951 كعضو في مجلس إدارة المشروع الخاص باستصلاح الأراضي المجاورة لنهر العاصي وهو مشروع الغاب. وعليه التزم بعضوية المجلس وأولاها غهتماماً لكونها واجباً وطنياً ولم يتردد في أداء هذا الواجب بالرغم من مما أعتلاه من صعوبات. وعليه استمر عمله حتى عام 1954 وهي فترة تعد مهمة بالنسبة لكونها فترة تأسيسية في طريق تأسيس المشروع حيث تم خلالها تنظيم وتشكيل الأجهزة الإدارية والفنية والمالية مع وضع تصور للخطوط العامة للمشروع، ونظراً لضغوط العمل قدم المترجم له طلب إعفاء وأعفي من العمل في المشروع .
مشروع المصرف المركزي: عقب تشكيل مؤسسة خاصة بإصدار النقد عام 1952 بدأ التفكير ببناء لمصرف، وتم شراء أرض تستوعب مختلف المؤسسات المالية التابعة للدولة وهو الموقع الحالي الذيي يضم مبنى وزارة المالية ومبنى المصرف الزراعي المشغول من قبل رئاسة مجلس الوزراء، ولقد أولى الدكتور عزت الطرابلسي حاكم المصرف المركزي المشروع أهمية ،بحيث تقرر تكليف ثلاثة مكاتب عالمية مختصة بتقديم دراسة معمارية أولية للمشروع واختير لإبداء المشورة مهندس معماري سبق له تصميم مصرف بلجيكا الوطني وهنا كلف المهندس خليل الفرا بمرافقة الأخير حيث اعتمد المشروع المقدم من الفرنسي آندريه لوكنت ، المسؤول عن  أبنية المصارف الفرنسية وبعد تشاور المهندسان الفرنسي والبلجيكي ، عرض على المهندس الفرا التعاون وكيف له إلا الموافقة على إنشاء هذا الصرح الوطني، وتم إبرام العقد 1954 ليبدأ التنفيذ 1956 حيث وضع حجر الأساس شكري القوتلي واستغرق العمل ثلاثة سنوات وتم التنفيذ بنجاح، وكان لتعاون الإدارة برئاسة عزت طرابلسي وعوض بركات، مع المتعهدين خالد أيوب وسركيس ازديان أثر كبير في نجاح المشروع ونظراً لنجاح المشروع كلف المهندس الفرا ببناء فروع المصرف في حماة ،وآخر في الحسكة واللاذقية وحلب وحمص. كذلك أتفق معه على إجراء توسعة لبناء المصرف في دمشق.
ودائماً يقر المترجم له بالعرفان لكل موجه له، ليقول تعاونه مع المهندس لوكنت أكسبه مزيداً من الخبرة التي وظفها فيما بعد عند إنشائه لمشاريع مماثلة - كبناء المصرف التجاري السوري 1964 في دمشق- وفي الحسكة بما في ذلك تأهيل كل ماهو قديم بالإضافة إلى إنشاء الفرع الرئيسي في ساحة يوسف العظمة والذي أنجز عام 1980 تلاه فرع حمص 2006.
لم يغفل المهندس الفرا عن المشاركة في بناء المساجد وعلى ذلك سعى للمشاركة في بناء ثلاثة مساجد هي: العثمان (الكويتي) وجامع بدر والثالث في منطقة حالياً في الزبداني بمشاركة مالية من السيدان بدر الدين وشفيق الشلاح.
حيث شارك عام 1960 السيد محمد عبدالله العثمان ببناء كتلة معمارية (مسجد ومستوصف) على مساحة 9500م توقف العمل بالمشروع لوفاة الممول ليتابع العمل على إتمامه عام 1970 ليفتح للمصلين عام 1972 بمشاركة كل من المهندسين محمد الفرا والسيد أديب البغدادي- واستكمالاً لما ورد وصية المرحوم الطحان بدأ بإنشاء المستوصف والبناء الخيري وتم إنشاؤهما على أتم وجه.
         وأخيراً لابد لنا من الإشارة إلى دور خليل الفرا في المساهمة والمشاركة في تأسيس جمعية للمهندسين السوريين، عام 1943 برئاسة المهندس نور الدين كحالة، والمهندس فيليب أسود، وفي تنظيم المؤتمر الهندسي العربي في دمشق عام 1947، حيث اعتمد قانون تنظيم المهن عام 1950 وبناءاً عليه انتخب المهندس مختار دياب نقيباً، ليزداد عدد المنتسبين من 120 إلى 1035ألف مهندس عام 2011.
وبالرجوع إلى صفحات دمشق المضيئة نجد أن مساهمة المهندس خليل الفرا لم تنحصر في مجاله الهندسي بل تجاوزها عطائه ليصل مرافق الحياة الاجتماعية بتنوعها، قيل فيه" عرف عنه إخلاصه واندفاعه وتفانيه ودقته وحسن تنظيمه"
وقيل فيه أيضاً" أغنى الحياة الدمشقية بأوجههاالجتماعية والثقافية والتراثية والتقليدية بعطاءاته المتجددة وقدوته الحسنة من خلال ترأسه العديد من النشاطات على مدةى سنين طويلة".

وفي الحقيقة مهما كتبت فلن أعطيه حقه؛ إلا أن ذاكرة الشام وسورية ستظل تحفظ لأبناءها البررة نضالهم وجهادهم في سبيل الوصول بالوطن إلى سدة التطور والازهار.
ويمكن القول لابد لكل باحث في تاريخ مدينة دمشق من التوقف عند الأستاذ خليل الفرا للإحاطة بالتطور العماراني والثقافي والاجتماعي.
د. عزة علي آقبيق



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق