الجمعة، 8 يوليو 2011

المواطنة


جيل جميل حمل حقوق المواطنة

يعود تاريخ مبدأ المواطنة إلى تاريخ كفاح وسعي الإنسان من أجل نيل حقوقه وإنصافه  وفق مبدأ العدالة والمساواة.

وعليه فالمواطنة كقيمة إنسانية، موجودة في نصوص أغلب الديانات السماوية والشرائع الأرضية، التي أقرت على أن سعي الإنسان إلى توكيد إنسانيته وحقوقه أمراً لابد منهُ في ظلَّ أُسس الأنصاف والعدالة والمساواة، على أن تكون الحرية والعدالة والمساواة، أولى الاستحقاقات الأساسية لوجود الإنسان الحقيقي لكونها مقومات البناء العضوي للدولة الناجحة المستندة على الشرعية الحقيقية، التي تقر بأن حقوق المواطنة ركناً ثابتاً ومهماً من أركان الدستور فيها.
وعليه تكون المواطنة في أبسط معانيها هي الوعي بقيمة التعايش مع الآخر في إطار مجتمعي يضمن من خلالها الفرد حقوقه ويحدد واجباته، فالمواطنة بحسبانها قيمة إنسانية، ليست بدعة جديدة، بل كانت موجودة بالقوة في نصوص أغلب الديانات السماوية والشرائع الأرضية، لكن ملامحها لم تتبلور بالفعل إلاّ في نهايات القرن العشرين، إذ تجسَّدَ ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، واتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، واتفاقية حقوق الطفل (1980).

إن الانتماء الحقيقي يوجب على المنتمي الإخلاص لوطنه، والعمل على حمايته والدفاع عنهُ، والالتزام بوحدته واستقلاله بالذود عن حياضه، ورفض أي تبعية أو هيمنة، على أن يكون ولاءه وإخلاصه خلصاً للوطن ، ولكونه  مواطناً صالحاً، يتوجب عليه المشاركة بالنهي عن المنكر والفساد في المجتمع، والعمل على المشاركة لإنهاء الحالات غير الحضارية.

لطالما قدمت بلاد الشام عبر تاريخها مواطنين أكفاء استطاعوا حمل عبء انتماءهم إليها، في وقت عصيب احتاجت فيه إلى أبناء أقوياء،  حيث أنجبت سورية أجيالاً فاخروا بعروبتهم، وحملوا هموم الأمة العربية، وتسلحوا بالقلم والبندقية، في سبيل الزود عن أوطانهم والحفاظ على الكرامة العربية.

 في خضم الأحداث الجسام لتلك الفترة وقفت ثلة من النسوة السوريات إلى جانب الرجل، مناضلات مكافحات في سبيل الاستقلال والحرية والوحدة العربية، شاركن في الحياة الحربية والأدبية والثقافية، مما أدى إلى فتح الباب أمام مشاركة المرأة في الحياة العامة، التي قادت فيما بعد إلى مشاركتها في الحياة السياسية، وإن كانت تلك المشاركة لا ترقى حتى اليوم إلى مستوى مرض أو مقبول.

لم يكن اندفاع المرأة في سورية للمشاركة في الحياة العامة قوياً في ذلك الزمن الصعب، لكنها استطاعت أن تشق طريقها متحدية مجتمع له فكر وتقاليد راسخة، فوقفت مجموعة من الرائدات اللاتي اقتحمن الحياة العامة عنوة، وناضلن في سبيل عزة ورقي الوطن ورغم أن نشاطهن الأساسي تركز في الصالونات الأدبية والمجلات النسائية، إلا أن مشاركتهن في الهموم العامة والحياة السياسية تركت بصمة واضحة لا يمكن إنكارها.

منهم على سبيل المثال  نازك العابد التي سطرت أروع البطولات, معتمدةً على وطنية مثالية وشجاعة نادرة، قاتلت المستعمر الفرنسي , وأسست الجمعيات النسائية , وأسست مجلة نور الفيحاء , وشاركت في تأسيس الهلال الأحمر، ونفيت من البلاد لأنها امرأة تصنع التاريخ نازك العابد ولدت عام 1887 من أسرة دمشقية عريقة , والدها مصطفى باشا العابد من أعيان دمشق تولى متصرفيّة الكرك وولاية الموصل في أواخر العهد العُثماني, والدتها فريدة الجلاد , أتقنت الفرنسية, والإنكليزية , والألمانية, إضافة للعربية التي أتقنت سحرها, واتخذت من مجلتي العروس ( وهي أول مجلة صدرت في سورية لصاحبتها ماري عجمي ) والحارس منبرا لآرائها وأفكارها المتنورة التي سبقت عصرها،  شاركت في المؤتمرات النسائية والوطنية في كل من سوريا ومصر ولبنان، كما شاركت في العديد من المؤتمرات النسائية الدولية، أسست وترأست عقب الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين عام 1916 ضد الأتراك , جمعية نور الفيحاء لمساعدة ضحايا هذه الثورة, وأصدرت عام 1920 مجلة نور الفيحاء التي سخرتها بهدف النهوض بالمرأة, ثم أسست النادي النسائي الشامي الذي ضم نخبة سيدات الشام المتنورات, منحت رتبة نقيب في الجيش زمن الملك فيصل نتيجة مواقفها البطولية , وكانت بصحبة وزير الدفاع السوري البطل يوسف العظمة حين خطا إلى ميسلون ليسطر أروع ملاحم البطولة, وليرسم إلياذته الخالدة في حب الوطن, ويقال أن هذا البطل حين أصيب في ملحمة ميسلون, واسلم الروح الطاهرة, كان بين يدي نازك العابد التي كانت تتفقد الجنود بلباسها العسكري  وبعد دخول المستعمر الفرنسي إلى دمشق لم ير بد من نفيها عن الوطن نتيجة مواقفها الوطنية ومشاركتها في معركة ميسلون,  فأبعدت إلى اسطنبول لمدة عامين ( 1920 – 1922 ) ولم تمض سنوات إلا وعاد المستعمر لنفيها مرة أخرى إلى الأردن, وحين تعهدت بعدم ممارستها للعمل السياسي,  سمح لها بالعودة ثانية إلى دمشق, فاختارت غوطتها لإقامتها فاختلطت بالفلاحين فكانت تساعدهم في العمل الزراعي وتحضهم على الثورة ضد المستعمر, ونشبت الثورة عام 1925 فكانت احد ثوارها تعمل بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال

ومنهم ماري عجمي، مشت في مسيرة الكفاح والنضال ضد المستعمر العثماني، أسست عام 1910 مجلة ( العروس ) وأسست جمعيات نسائية عدة، اتضحت مسيرتها النضالية حين التقت بالمناضل بترو باولي، الذي أعدم مع مجموعة الشهداء في 6 أيار، مما أجج الغضب والحقد في نفسها على الاستعمار، فازداد نضالها حماسة، وفيما بعد واجهت ماري عجمي الاستعمار الفرنسي بنفس الروح النضالية، ورفضت كل محاولات رشوتها واستمالتها
عادلة بيهم الجزائري التي شاركت في النضال السياسي ضد العثمانيين، وحمت هي ورفيقاتها أناسا كثيرين من أعواد المشانق التركية، كما قال الدكتور أحمد قدري الترجمان، أحد الثوار، وأسست عدة جمعيات نسائية، لأهداف سياسية في المرحلة الأولى، ثم لأهداف ثقافية واجتماعية، وذلك عندما أسست عام 1933 ( الاتحاد النسائي العربي السوري ) الذي ضم عشرين جمعية نسائية.

وهكذا ومما سبق اتضح أن مساهمة المرأة في الحياة السياسية بدأت خجولة في نهايات عهد الاستعمار العثماني وبدايات القرن العشرين،حيث اقتصرت على مساعدة المناضلين وتخبئتهم عن أنظار المستعمر، دون مشاركة جدية فاعلة في الحياة السياسية، إلا أن حادثة إعدام شهداء 6 أيار، الذين كانوا من خيرة رجال وشباب الوطن، دفع المرأة على ما يبدو أكثر من قبل للتفاعل مع مجريات الأحداث السياسية، وإن بقي ذلك محدودا ، ولم تظهر في سورية في تلك الآونة حركة نسوية واضحة الأهداف والمعالم كما في مصر.

وبين عامي ( 1920 – 1946 )، مرحلة الانتداب الفرنسي، بدأت النسوة بالمطالبة بحقوق المواطنة، فازدادت مطالب حركة تحرر المرأة تتصاعد، وغدت مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية أكثر وضوحاً، وكمثال على الفكر النهضوي لابد للبحث من التطرق إلى بعض الأسماء الهامة التي تابعت المطالبة بتحرر المرأة كالرائدة مقبولة الشلق 1921-1986؛ وثريا الحافظ ، ممثلة جيل ولد في قلب دمشق..ونذر نفسه للوطن والعروبة، كانت من أبرز نساء جيلها مع ألفة عمر باشا الإدلبي، وجيهان موصلي،  اللواتي قارعن الاستعمار وساهمن مع غيرهن على خلفية نضال المجاهدين في صنع علائم النصر وإخراج المستعمر من أرض سورية، شجعها على ذلك المناخ النضالي المفعم، وزوجها المجاهد منير الريس صاحب (الكتاب الذهبي) والقلم الجريء، الذي آزرها وشد من عضدها، مما مكنها من تأسيس العديد من الجمعيات والمنتديات، وعلى رأسها منتدى سكينة الأدبي، الذي نثرت من على منبره بذور المعرفة، وحاضر فيه كبار مثقفي ومفكري الوطن العربي وهي تقف صامدة لا مبالية، كانت ثريا تساعد الناس وتشعر بهم، وهم بالتالي يشعرون بها أثناء الحاجة، قدّرها الجميع واحترمها، عملت جاهدة للحفاظ على حقوق مواطنيها من خلال نشر بذور الفكر الواعي الحر، حين قالت لم ندخر جهداً أنا ومثيلاتي من المناضلات لإيصال ما نريده إلى أكبر عدد ممكن من النساء فمن أحاديث في الإذاعة إلى محاضرات في الأندية، إلى توجيهات من خلال الجمعيات المؤسسة آنذاك: جمعية نقطة الحليب، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمات، دوحة الأدب، جامعة نساء العرب القوميات، الرابطة الثقافية النسائية، منتدى سكينة الأدبي، النادي الأدبي النسائي، ومن خلال الاتصال المباشر بالنساء عن طريق المقاومة الشعبية للمرأة عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر) إضافة إلى تمريض جرحى المظاهرات ضد المستعمر الفرنسي، ومواساة أسر الشهداء، ورعاية أطفالهم مادياً ومعنوياً، وقد افتتحت جمعيات خريجات دور المعلمات حينها ميتماً تحت اسم (دار كفالة الفتاة) ابتدأ بعشرين يتيمة وانتهى بحوالي أربعمائة، يقدم لهن التعليم والرعاية حتى يكبرن ويعتمدن على أنفسهن، كذلك توجيه النساء لممارسة حقهن المشروع في ممارسة حق الانتخاب، ثم حق الترشيح، وقيامها فيما بعد مع بعض رفيقات دربها النضالي بتأسيس جمعية رعاية الجندي عام 1956، ليقمن بعدة زيارات للجنود في مواقعهم، وتقديم الهدايا لهم، تاهيك عن حفلات الترفيه، وزيارة المرضى من المجندين في المستشفيات لتقديم المواساة.

وحول التوعية العملية التي كانت تفاخر بها باستمرار، قيامها على رأس مئة سيدة برفع النقاب عن وجوههن في مظاهرة تحررية ، كانت أول امرأة سورية رشحت نفسها لانتخابات عامة، وأول من حملت بندقية ورشاشاً في المقاومة الشعبية.

أقامت عام 1946 صالونها الأدبي (حلقة الزهراء الأدبية) الذي أقيم في منزل زهراء العابد زوجة رئيس الجمهورية آنئذ، لصغر مساحة منزلها، لا يتسع لإقامة مثل هذا النوع من الصالونات الثقافية.

وعليه إذا ذكرنا تاريخ النضال النسوي والكفاح المرير بعد العهد العثماني لرأيناها المناضلة الجريئة الأولى.. فهي بطلة المظاهرات وخطيبة الجماهير في ساحات الثورات، وهي التي لا يعرف الخوف إلى قلبها سبيلا ، أحبت لغتها، وعشقت قوميتها، وسارت في خدمة أمتها في مختلف المجالات، وكان في أحاديثها صراحة وجرأة.. إن من يقرأ كتاببها (حدث ذات يوم) و (الحافظيات) يطلع على نضال المرأة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وعلى كفاح الفتيات اليافعات ضد الطغيان، ويعرف أن الأمة التي أنجبت خولة بنت الأزور، وأسماء.. أنها أنجبت أيضاً نساء في قلب دمشق نذرن نفوسهن لخدمة العروبة. أنها تعكس لك الأحداث كشريط ينساب أمامك بعفوية صاحبتها، بإخلاصها لأفكارها الاجتماعية والسياسية، بتمسكها بقيمها ومعتقداتها وصفاء نفسيتها، إنها أم جيل عشق الحرية والنضال.

استقلت سورية في 17 نيسان 1946، وشاركت النساء في احتفالات الجلاء التي أقيمت كل عام في ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي، هذا الإنجاز التاريخي جاء نتيجة حتمية للنضال المتفاني السياسي والجماهيري السلمي والمسلّح الذي خاضته فئات شعبنا كلها على امتداد ربع قرن، والذي جسّد إرادة شعب وقضية وطن، عبّر فيها الشعب السوري عن عمق الانتماء لوطنه، والإيمان بالحرية والعدالة، وكانت الوحدة الوطنية التي تجلت بكل معانيها عاملاً أساسياً في تحقيق النصر, ولا يستطيع احد نكران الدور الهام والبطولي الذي قامت به المرأة السورية في مقارعة الاستعمار,  وذلك من خلال العديد من الأسماء النسائية كنازك العابد, و زينب الغزاوي, رشيدة الزيبق, سارة المؤيد العظم، ومنيرة المحايري، وثريا الحافظ، ويسرى ظبيان، وزهيرة العابد، وسنية الأيوبي، وجيهان موصللي، وبلقيس كردعلي, والشهيدة سلمى بنت محمد ديب قرقورة وغيرهن كثيرات.
وأخيراً أدى شعور المواطنة لدى النساء السوريات إلى تجاوز العادات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك، للوصول إلى حق مشروع،  هو  مشاركة المرأة الرجل في حق حماية وصون الوطن ، وصولا لنيل الحرية والاستقلال.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق