الثلاثاء، 30 أغسطس 2011

منير العجلاني

منير العجلاني (1908 ـ 2004)
سياسي سوري، ورجل قانون من الطراز الفريد، وأديب من المستوى الرفيع، ولد في دمشق عام 1908، وبدأ تعليمه في دور الكتاتيب، ثم التحق بالكلية العلمية الوطنية ونال الشهادة الثانوية في سن مبكرة، ثم نال شهادة الحقوق من معهد الحقوق العربي بدمشق (كلية الحقوق حاليّاً) وسافر إلى باريس حيث نال دكتوراه دولة في الحقوق العامة والخاصة، وشهادةً في الصحافة من معهد العلوم الاجتماعية العليا، وشهادةً في فقه اللغة وفي علم الاجتماع من السوربون. ومارس في العاصمة الفرنسية أنشطة سياسية متنوعة بصفته أميناً للجمعية العربية ولجمعية الثقافة العربية؛ فقد أصدر مجلة الحياة الأدبية لتكون أول خطوة في مشواره الصحفي، كما نشر مقالات في صحيفة «لوسوار» انتقد فيها السياسة الفرنسية في سورية، مما دعا السلطات الفرنسية لإبعاده، فتوجه إلى جنيڤ حتى سمح له بالعودة لإتمام تخصصاته.
عاد إلى دمشق عام 1933 حيث بدأ العمل السياسي مع الكتلة الوطنية مع مناضلين آخرين، منهم عبد الرحمن الشهبندر وسامي كبارة، كما ألف مع بعض الشباب جمعية أدبية باسم: «المجمع الأدبي»، وفي عام 1939 أصدر مع سامي كبارة جريدة «النضال» في دمشق وهي سياسية يومية، وكان هدفه مساعدة الوطن على إصلاح الوضع السوري سياسيّاً واجتماعيّاً.
انتخب نائباً عن دمشق أربع مرات، وكان حين انتخابه أصغر عضو نيابي سوري، واعتقل عدة مرات بسبب مواقفه المعادية للفرنسيين.وقد أُسندت العجلاني وزارة الشباب والدعاية، كما تولى منصب وزارة التربية الوطنية مراراً، ووزارة العدل ورئاسة الوزارة بالنيابة كما كان عضواً في اللجنة التي وضعت مسودة دستور عام 1936 وألَّف عنه كتاباً باللغة الفرنسية. وانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي، وقد حافظ على مقعده النيابي حتى عام 1956، كما درّس في جامعة دمشق(الجامعة السورية) سنوات عديدة وتخرج على يديه آلاف الحقوقيين العرب.
حوكم عدة مرات بقضايا سياسية لتهمٍ تتعلق بتوجهاته السياسية وسُجن من أجلها حتى عام 1961 حيث أفرج عنه، فانتقل إلى تركيا ومنها إلى السعودية بدعوة من الملك فيصل بن عبد العزيز، وعُيِّن في منصب كبير المستشارين في وزارة المعارف والتعليم العالي، ورئيساً لتحرير صحيفتي «الجزيرة»و«القبس» و«المجلة العربية» التي جعلها في خدمة الأدب العربي. فأسهم في تطوير التعليم في كل مراحله: من الابتدائي حتى العالي منه، وأصدر سلسلة من المؤلفات التاريخية في البلاد السعودية. والكتب التي ألفها منير العجلاني عن تاريخ المملكة العربية السعودية والمعروفة بأجزائها الخمسة تعكس أسلوباً خاصّاً انتهجه مؤلفها باستخدام الحس التاريخي والسياسي وتجربته القانونية.
للعجلاني الكثير من المؤلفات في القانون من أهمها: «الحقوق الدستورية» و«عبقرية الإسلام في أصول الحكم» و«القضاء في الإسلام»ومن مؤلفاته أيضاً ما هو أدبي مثل: «أوراق» و«قصص». وللعجلاني أيضاً كتب عديدة لم تطبع بعد مثل ديوان شعر «أزهار الألم»، و«ابن خلدون»، و«عجائب الدنيا»، و«الكيمياء عند العرب القدامى»، وكذلك العديد من المقالات الأدبية والاجتماعية. وقد عُرف عنه تواضعه وبساطته حيث كانت تربيته إسلامية نقية، متسامحة، وكانت مدرسته الأولى في بيت الأسرة وهي مدرسة والده الشيخ علي العجلاني، ومدرسته الثانية كانت دراساته ومتابعته للفقه الإسلامي، لذلك حافظ على طهارة تربيته وأخلاقه مدافعاً عن عقيدته ومبادئه مهما اختلف الناس في تقويمها.
رحل العجلاني عن عمر يناهز 96 عاماً إذ توفي في الرياض ودُفن فيها بعد أن أقعده المرض أربع سنوات، وكان في حياته شعلة في الحركة والتنقل المتواصل، وهو يكتب ويؤرخ للعرب وللإسلام.

الاثنين، 29 أغسطس 2011

السيدة قمر قزعون شورى

أجمعت قواميس اللغة العربية على أن أنثى الصقور تدعى الصقرة؛ الأنثى الشديدة الذكاء والبصر والبصيرة، الأكثر قدرة على التحليق والأكثر شجاعة والأكثر تحمل.
ونحن في موقعنا هذا لسنا بصدد الدخول في حديث عن الصقور؛ إلا أننا سنتحدث عن صقرة سورية ملأت فضاءات سورية وطنها الذي أحبته بجليل فعل استحقت أنت تكون صقرة الشام بجدارة.

كم كان نهاري جميلاً الأمس؛ عندما ساقني القدر إلى الأجتماع بذلك الوجه الصبوح الوضاح؛ كم كانت سعادة غامرة عندما أطلت علي تلك السيدة المهيبة بابتسمتها الرقيقة العذبة لتقول لي بصوت جميل أهلاً وسهلاً، كتابتي عنها لاتعطيكم ولو بارقة بسيطة عن طبيعتها، إمرأة دمشقية أصيلة بامتياز. إنها السيدة قمر قزعون شورى، صاحبة مسيرة العمل الطوعي لما يقارب 70  عاماً

    ولدت صاحبة  الترجمة في دمشق  عام 1917 ،  وعاشت طفولتها ضمن عائلة تؤمن بالعلم والأخلاق وحب العطاء؛ عشقت وطنها من خلال معايشتها لوالدها ذلك الوطني المثقف المسؤول عن تأمين الخبز لثوار  الثورة السورية الكبرى فتشبعت بحب الوطن والإيثار

   أحبت والدها بحبه لوطنه ونبله وحنانه ودماثة خلقه، فواكبت دربه في حب التعلم لتصل إلى دار المعلمات حيث نالت شهادة في الفلسفة وعلم النفس؛ بالإضافة إلى إتقانها للغات عدة.

   لبت نداء الحرية لتشارك وهي إبنة الستة عشر ربيعاً   زميلاتها في المرحلة الثانوية مظاهرات عدة تهتف بخروج  قوات  الاحتلال الفرنسي من سورية ، حيث قامت وزميلاتها بكتابة (عريضة) بدمائهن تطالب فرنسا بإعطاء سورية حريتها تماشياً مع ماتنادي به فرنسا من حرية وديمقراطية.

    بدأت العمل الطوعي عام  1940 فشاركت بتأسيس جمعية الندوة الثقافية النسائية لمساعدت الفتيات ذوي الدخل المحدود، مثابرتها وطموحاتها أهلتها  عام 1944 لحضور المؤتمر الأول للاتحادات النسائية في الأقطار العربية في القاهرة الذي انبثق عنه الاتحاد النسائي العربي العام برئاسة السيدة هدى الشعراوي، وبالرغم من عبء المسؤوليات العائلية والوطنية، إلا أنها شاركت  عام 1945  سيدات الاتحاد النسائي على إسعاف وتأمين الغذاء للمحتاجين أثناء قصف البرلمان السوري، لتسهم في منحن آخر عام1946  مع مجموعة من رجال وسيدات سوريا  في تأسيس الهلال الأحمر العربي السوري ،وهو منظمة انسانية مهمتها مساعدة الجرحى في الحروب وتأمين حياة الأسرى والمدنيين.    وخلال عملها في الهلال وتقاطعا" مع عملها في الاتحاد  النسائي قامت بجمع التبرعات للاجئين الفلسطينيين وتأمين مأوى لهم إثر نكبة عام 1948

   ظلت قضايا المرأة السورية شغلها الشاغل لتحقق ضمن فريق التحاد النسائي عام 1949  الحصول على حق المرأة في الانتخاب دون الترشيح وكانت هذه هي الخطوة الأولى في حصول المرأة على حقها الكامل.

واكبت السيدة شورى تطور حقبة الخمسينيات من القرن المنصرم وعليه دخلت مجال البث الإذاعي  كمتطوعة  عام 1950  للعمل كموجهة اجتماعية في الإذاعة السورية.    

دفعها حسها الوطني إلى المشاركة عام 1954  بحملات لجمع التبرعات في أسبوع دعم الثورة الجزائرية.  

   كذلك شاركت  في عام 1956  في مؤتمر الاتحاد النسائي العام في القاهرة الذي تقرر فيه مشاركة المرأة في الدفاع الفعلي عن أرض الوطن، فشاركت مع زميلات لها في المقاومة الشعبيةالنسائية حيث تدربن على استعمال الأسلحة الخفيفة أثناء العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، وفي نفس العام شاركت بحضور حلقة دراسية أقامتها لجنة حقوق المرأة التابعة للأمم المتحدة في موسـكو.

   ونظراً للجهود النسائية المبذولة أصبحت دمشق في عام 1957  المقر الدائم للاتحاد النسائي العربي العام ، برئاسة السيدة عادلة بيهم ولتشغل السيدة قمر شورى أمانة السر حتى العام 1963.
كذلك أسهمت السيدة قمر شورى عام 1958  مع زميلاتها في استفتاء شباط حول الوحدة بين مصر وسورية 
أما في عالم الأمومة فقد انتخبت الأم المثالية عن الإقليم السوري أثناء الوحدة عام 1960

   ونظراً لمشاركتها وجهودها في تأسيس عدد من الجمعيات السورية (جمعية مكافحة السل السورية والجمعية السورية لمكافحة السرطان )؛ انتخبت  عام 1965كرئيسة للهلال الأحمر العربي السوري / فرع دمشق  لتنتخب عام 1980  نائبا" لرئيس منظمة الهلال الأحمر العربي السوري  لغاية 1998  ولغاية عام 2002  وبعدها اسندت إليها رئاسة فرع دمشق الفخرية مـدى الحياة.
كذلك أسهمت في تأسيس جمعية أصدقاء دمشق، وجمعية الفنون النسوية فيها. 

   للسيدة قمر شورى مشاركات في العديد من مؤتمرات الهلال والصليب الأحمر في عمان، بيروت، الرياض ،الكويت   بودابست ،جنيف، دمشق، المغرب والجزائر.
ونظراً لجهودها نالت مجموعة من الأوسمة
   - وسام الإخلاص السوري عام 1948 بسبب جهودها لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين أثناء الحرب
  - وسام الفارسة من الملك الحسن الثاني عام 1974 للخدمات التي قدمتها لجنود التجريدة المغربية التي دافعت إلى جانب الجيش العربي السوري في حرب 1973
 - وسام جوقة الشرف الفرنسي 1982 لمساهمتها في إغاثة المهجرين اللبنانيين القادمين إلى سوريا 
- وسام الهلال الأحمر العربي السوري تقديرا" لخدماتها خلال 30 عام
- وسام هنري دونان  وهو أعلى وسام في حركة الصليب الأحمر وذلك لخدماتها التطوعية لمدة 46 عام تحت راية الهلال الأحمر العربي السوري

كرمت عام 2003 من قبل السيدة الأولى(السيدة أسماء الأسد) من خلال المنتدى الذي أقيم في دمشق / إمرأة وتربية – وطن وتنمية /
 اختيرت عام 2007 من قبل السيدة أسماء الأسد حرم السيد رئيس الجمهورية، لتكون المرأة المميزة السورية لتنال وسام المرأة العربية المميزة من ملك البحرين ، من خلال المؤتمر الثاني لمنظمة المرأة العربية برعاية  السيدات الأول في الوطن العربي
واليوم مازالت السيدة قمر شورى بيننا نتعرف من خلالها على التطور الحضاري لسورية  بما روته عن معايشتها لشخصيات فاعلة في بناء تاريخ سورية المعاصر.










الأحد، 28 أغسطس 2011

الدكتور محمد عادل العوا صقر من صقور الفكر السوري

محمد عادل العوا (1921 ـ 2002)
وُلد محمد عادل العوا بدمشق، وتعلم في مدارسها، نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون في فرنسا عام 1945، وعاد وطنه ليسهم بعلومه ومعارفه، فعمل مدرساً في المدارس الثانوية ودار المعلمين حتى افتُتحت كلية الآداب والمعهد العالي للمعلمين عام 1946، فسُمي مديراً للمعهد، ثُمَّ أستاذاً في كلية الآداب عام 1949، ورأس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية منذ ذلك الحين إلى عام 1990.
شغل عدة مناصب علمية وإدارية في جامعة دمشق، إذ أصبح عميداً لكلية الآداب منذ عام 1965حتى عام 1973، ورئيساً لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية حتى عام1990. شارك في مؤتمرات وندوات عدة، وأسهم في أعمال اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وكان عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ومقرِّر لجنة الترجمة والتبادل الثقافي عن القطر العربي السوري. وقد حاضر في أكثر من جامعة عربية وعالمية. انتُخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق منذ عام 1991، كما سُمي عضواً في مجلس أمناء الجامعة الافتراضية السورية.
وتقديراً لإنجازاته في مجالي الفكر والثقافة مُنح وسام الاستحقاق السوري من الدَّرجة الممتازة في 3/2/2002.
ترك كتبا كثيرةً، منها أربعة وثلاثون تأليفاً، وستة وأربعون ترجمةً. ومن أهم مؤلفاته «حقيقة إخوان الصفا»، «المذاهب الأخلاقية»،«القيمة الأخـلاقية»، «التجربة الفلسفية»، «العمدة في فلسفة القيم»، «الأخلاق والحضـارة»، «آفاق الحضارة»، «مواكب التهكم»، «مذاهب السعادة»، «معالم الكرامة في الفكر العربي»، «من الشـرف إلى الكرامة»، «لقاء القيم في الفكر العربي»، «الفضائل العربيَّة». ومن أهم الكتب المترجمة عن الفرنسية: الأخلاق والحياة الاقتصادية، الأخلاق والسياسة، الحرية، الحرية في عصرنا، الفكر والتاريخ، حوار الحضارات، السعادة والحضارة، عسر الحضارة، دعائم علـم الاجتماع، العقل والمعايير، الثورات العقلانية، الفكر العلمي الجديد، الفن والحياة الاجتماعية، القيمة، القيمة والحرية، عالم القيم، فلسفة القيم، المواقف الأخلاقية، الممارسة الأيديولوجية، نقد المجتمع المعاصر، فلاسفة إنسانيون، الفلسفة والتقنيات، نهج الفلسفة.
وقد حرص العوا، في نقله هذا التراث الإنساني الغربي إِلى المكتبة العربية، على ترسيخ الاصطلاح الفلسفي في اللغة العربية، ساعده على ذلك امتلاكه ناصية اللغة العربية.
لم ينفرد العوا بمذهب فلسفي معين، وعلى الرغم من سعيه إلى إقامة مستقبل للأخلاق متمايز، لكنه غير منفصل عن الفلسفة، إيماناً منه بأنَّ الأخلاق من الـمباحث الفلسفية الأصيلة. لهذا قدم نظرية في الأخلاق، عالجت مختلف الـمعاني الأخلاقية ومتباينات النشاط الأخلاقي، حاول فيها أن يقارب بين النظر والعمل، ويمحو الفارق الزائف بينهما، ويلغي التعارض القائم بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية، بوصف الأخلاق علماً يهدف إلى دراسة السلوك الإنساني، وقد سميت نظريته الأخلاقية بنظرية التجربة الأخلاقية، أو الأخلاق المشخصة، كما دعاها في كتابه القيمة الأخلاقية.
يُعدّ العوا من الرعيل الأول المؤسس لكلية الآداب في الجامعة السورية، له الفضل في تأسيس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، تخرجت على يديه أجيال متتابعة من المثقفين العرب عامة والسوريين خاصة، ومن هذه الأجيال نشأ جيل جديد من المفكرون والباحثون والأساتذة الجامعيون.
على أنَّ مكانته لا تنبع من هذا الجانب وحده، فلا أحد يماريه في مكانته العلـمية على صعيد الوطن العربي لوافر ما قدمه للفكر العربي وأهميته، وبخاصَّة على صعيد الفلسفة الأخلاقية تأليفاً وتعريباً، حَتَّى غدا مرجعاً لايستغنى عنه. من خلال العمل على تجديد الفكر العربي، وهذا ما يُرى في كتبه عن إخوان الصفا، الذين كانوا يدعون إلى المثل الأعلى، بقيامهم بحملة تربوية تستهدف إصلاحاً فكرياً وأخلاقياً للإنسان.

مراجع:
ـ عادل العوا، دراسات أخلاقية (جامعة دمشق، دمشق1983).
ـ عادل العوا، العمدة في فلسفة القيم (دار طلاس، دمشق 1986).

الخميس، 25 أغسطس 2011

رشيد بقدونس الفارس الذي ترجل بصمت

 رشيد بقدونس(1292 ـ1362هـ/1875 ـ 1943م)
رشيد بن عبد الرزاق بن حسن بن يوسف بقدونس، مناضل عسكري وسياسي سوري، عالم بالتاريخ والجغرافية وله عناية باللغة العربية، ولد في صالحية دمشق وتوفي فيها.
أنهى دراسته الأولية في المدرسة الرشدية في دمشق، ثـم التحق بالكليـة الحربية في اصطنبول وتخرج فيها ضابط مشاة عام 1895، أُرسل بعدها في كتيبة إلى كريت Crete ثم نقل إلى سالونيك Salonique فأقام فيها ست سنوات وتعلم اللغة اليونانية. وحارب في صفوف الجيش التركي في حرب اليونان وأُسر في إسبرطة Sparta عام 1913، وبقي أسيراً سنة ونصفاً ثم أطلق سراحه، فأرسل إلى جبهة القوقاز مع بداية الحرب العالمية الأولى وظل فيها حتى انتهاء تلك الحرب.
تلقى علومه في مادتي التاريخ والجغرافية في مكتب عنبر، ليتمم تحصيله العلمي فيما بعد في دار المعلمات بدمشق عام 1921. ليكون أستاذاً فيما درس في المدرسة السلطانية في السلط 1922-1923 وفي المدرسة الإسلامية الكبرى في حيفا 1924-1928.
كان من نشطاء جمعية العهد التي تأسست عام 1913 وضمت عدداً كبيراً من القوميين العرب، ونادت باستقلال البلاد العربية. وأصدر في مدينة كولكي ـ سالونيك، جريدة الوطن باللغة التركية، ووقفها على نشر الوعي القومي والدعوة إلى استقلال البلاد العربية ووحدتها.
 التحق عام 1918 أي بعد إعلان الثورة العربية ونجاحها   بالجيش العربي في سورية،وعُيّن برتبة قائد في الشعبة الثالثة من ديوان الشورى الحربي، فشارك في تنظيم الجيش الفتي وتدريبه، وأسهم في ترجمة الكتب العسكرية من التركية إلى العربية، منها: كتاب «تعليم المشاة» (1919) وكتاب«الفروسية» (1920) وكتاب «سياسة الخيل«، كذلك شارك في وضع جداول فنّ الرمي والرقيم اليومي وكتاب «الأسلحة»، وكتاب «التعبئة» وتنظيمات الجيش. وكان بصحبة الملك فيصل لما دخل دمشق بعد إعلان الاستقلال في 8 آذار عام 1920.
وبنجا الحلفاء في تقسيم بلاد الشام إلى سورية الشمالية تحت الانتداب الفرنسي، وسورية الجنوبية تحت الانتداب الإنكليزي اعتزل صاحب الترجمة الحياة العسكرية، وتفرغ لمقارعة المستعمرين الفرنسيين بفكره وقلمه، فشارك القوى الوطنية في تنظيم تجمعاتها وفي حرب العصابات، والمقاومة الوطنية التي بلغت أوجها عام 1922، وكان من بين من اعتقلتهم السلطات الفرنسية في ذلك العام وحكمت عليهم بالسجن والنفي، فحكم عليه بالسجن عشر سنوات ومثلها بالنفي، ولكنه تمكن من الهرب متخفياً عبر بادية الشام، حتى وصل إلى الأردن ثم فلسطين، وبقي فيها إلى أن صدر عفو عام عن الثوار في سنة 1928 فعاد إلى دمشق.
مارس مهنة التدريس في مدارس منفاه فلسطين فدرس مواد التاريخ والجغرافية والحضارة العربية، وكان يؤكد في دروسه وحدة بلاد الشام، ليتابع بعد عودته إلى بلده الأم نشاطه النضالي والسياسي، فكان من بين أعضاء المؤتمر السوري العربي الذي دعت إليه القوى الوطنية عام 1933.
وتأكيداً على فرط محبته للوطن وجه في 18 تشرين الأول 1935م مذكرة باسم المحاربين القدماء إلى دي مارتيل De Martel المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان يطالبه فيها بالوحدة السياسية الشاملة وبالاستقلال والسيادة.
شارك في إعداد البيان الأول للجبهة الوطنية المتحدة عام 1936وشارك أيضاً في نشر ميثاق الاتحاد الوطني العام، كما شارك في المؤتمر القومي العربي في بلودان عام 1936/1937.
دفعه حبه للغته العربية إلى الإسهام في جميع النشاطات التي تهدف إلى النهوض باللغة العربية والابتعاد عن التعبيرات الأجنبية، فترأس أعمال لجنة التهذيب اللغوي التي أنيط بها تدقيق التعبيرات والكلمات التنظيمية للقطاع المدني للدولة الفتية منذ عام 1919، وذلك بوضع مرادفات عربية للاصطلاحات والتعبيرات والتعليمات العسكرية والأوامر التي كانت مستعملة في الجيش التركي. وذلك من خلال دراسة مطولة حول اتباع رسم معين يضاف إلى الحروف العربية في مقابل الحروف الأجنبية التي ليس لها ما يقابلها في الأبجدية العربية.
ودعماً للفكر العلمي كان من أوائل  المنادين بتأسيس مجامع علمية في كل من دمشق وبغداد والقاهرة وتونس والمغرب الأقصى حرصاً منه على سلامة اللغة العربية.
شارك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق (مجمع اللغة العربية اليوم) عام1920 وكان من أوائل أعضائه ليتميز عن أقرانه بمشاركاته المتميزة،  ونظراً لاضطلاعه بعلوم اللغة العربية عين رئيساً للجنة المصطلحات العلمية التي ضمت أعضاء من المجمع ومن الجامعة السورية وجامعة بغداد، وكانت له إسهامات في مجلة المجمع العلمي العربي. وقد أتقن اللغات التركية والفرنسية واليونانية والفارسية إتقاناً تاماً، وله مؤلفات باللغة اليونانية، ويبدو أن اندلاع الحرب العالمية الثانية ووفاته حالا دون صدورها.

 من أهم مؤلفاته كتاب «التاريخ العام»، وكتاب «التاريخ القديم»، (الأعوام1924-1928) وكتاب«تاريخ القرون الوسطى»، وكتاب «تاريخ القرون الأخيرة»، وكذلك كتاب «الجغرافية الطبيعية».
كذلك ترك مخطوطات غير منشورة، منها «تاريخ الكنيسة» (ترجمة عن اليونانية) و«آثار العرب» و«الطب عند العرب».
من أهم نشاطاته الخيرية والاجتماعية إسهامه مع نخبة من أهل الصالحية في تأسيس «جمعية الثقافة والتعليم الخيري»، لتعليم أبناء الفقراء والأيتام وتقديم الكتب واللوازم والألبسة مجاناً، وتعليم الأميين من أرباب الحرف ليلاً. وكان عضواً عاملاً في «جمعية النداء الخيري التعليمي»، وفي «جمعية التمدن الإسلامي». كما كان من مؤسسي «جمعية إسعاف المتقاعدين»، لإعانة المحتاجين من المتقاعدين العسكريين والمدنيين وأرباب المهن الحرة وأسرهم بالتطبيب والأدوية اللازمة.
رحمه الله كان إبناً باراً لوطنه هو ذلك المحارب الأديب المربي إنه رشيد بقدونس ولطالما ستظل سورية بل بلاد العرب تفخر بمثل أولئك الذين نذروا الحياة لخدمة الوطن- وستظل سورية كشجر الليمون تطرح ليموناً على مدار الأعوام ولو كره المغرضون 

مراجع
ـ أمين سعيد، الثورة العربية الكبرى (مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر).
ـ أحمد حلمي العلاف، دمشق في مطلع القرن العشرين (منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1976).
ـ ظافر القاسمي، مكتب عنبر (دار العلم للملايين، بيروت 1964).
ـ مجلة المجمع العلمي العربي، المجلد الخامس (1925-1926).

الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

المنشآت الاقتصادية التاريخية في بلاد الشام- د. عبد القادر الريحاوي

تعد مظهراً متميزاً للتبادل التجاري بينها وبين شعوب البلدان الأخرى من الشرق والغرب.
وكانت كل من مدينتي دمشق وحلب في طليعة المدن السورية من حيث العناية بالمؤسسات التجارية كالخانات والقيساريات، كذلك كانت طرق القوافل مزودة بالخانات والفنادق لتأمين راحة التجار والمسافرين.
فسورية كجزء من المنطقة العربية تتمتع بموقع جغرافي متميز بين القارات، ظهرت مكانتها الاستراتيجية منذ أقدم العصور، وتناوبت مع دول المنطقة السيطرة على التجارة العالمية ونقل السلع المحلية والأجنبية في رحلات تجارية منتظمة.
ولقد تمكنت اليمن منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولاسيما في عهد دولتي معين وسبأ من السيطرة على طرق التجارة ونقل السلع من الصين والهند وفارس.
ثم نشطت دول الأنباط وتدمر والغساسنة والمناذرة وأهل الحيرة والحضر، خلال القرون الأولى للميلاد وقبل الإسلام، في تولي شؤون التجارة العالمية.
وكان من أهم السلع وقتئذ، حرير الصين، وسيوف الهند وتوابلها، ولآلئ الخليج، ومنسوجات الحرير الشامي، وسلع اليمن كالعطور والصمغ والكافور والمرو.
وحقق تجار تدمر في هذه الفترة تفوقاً ملموساً، فوصلت قوافلهم إلى موانئ الخليج العربي لتجلب منها بضائع الهند إلى بلاد الشام، ثم تنقلها عبر الموانئ السورية إلى بلدان البحر المتوسط، كذلك وصلت قوافلهم إلى مصر والبحر الأحمر واليمن والبتراء.
وينتقل النشاط التجاري بعد سقوط دولة تدمر إلى الحيرة والحضر في العراق، وكان لتجار الحجاز في العهد البيزنطي نشاط تجاري هام مع بلاد الشام.
ونشط تجار المنطقة العربية بعد الإسلام وقيام الدولة العربية الإسلامية الممتدة الأرجاء، فسيطروا من جديد على تجارة البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود والمحيط الهندي، وحفلت المدن الكبرى والطرق الرئيسية في سورية بالمؤسسات الاقتصادية، الصناعية والتجارية، وبمحطات القوافل، وظلت الصّلات التجارية قائمة بين أوروبا وسورية بعد حركة الاستكشافات والاستعمار، تشهد على ذلك الجاليات الأوروبية التي تتخذ منازل لها خانات وقيساريات استمرت حتى القرن العشرين.
والحديث عن المنشآت الاقتصادية يستوجب التعريف بأسمائها ووظائفها كمصطلحات استمر استعمالها قروناً طويلة، كالسوق والخان والفندق والقيسارية والوكالة.
فمحطات القوافل على الطرق تتكون من فناء حوله قاعات من طابق واحد، بينما تتكون الخانات والقيساريات في المدن من طابقين، وقد سقفت بعض الفناءات من العهد العثماني بمجموعة من القباب، كما في خان أسعد باشا في دمشق.
* تمثل المنشآت والمؤسسات الاقتصادية التاريخية جانباً هاماً من النشاط الاقتصادي والحضاري الذي تتميز به بلاد الشام، بل هي المظهر الرئيسي لطريق الحرير والتبادل التجاري بين الشعوب على مرّ العصور.
وفي طليعة المدن التي اشتهرت بنشاطها ومؤسساتها في بلاد الشام والمنطقة العربية مدينتا دمشق وحلب اللتان مازالتا تحتفظان بالعديد من الخانات والقيساريات.
وتحدثنا كتب التاريخ والرحلات عن هذه المنشآت بالتفصيل وعن ظروف بنائها ووظائفها وأقسامها المعمارية ونشاطاتها التي حفلت بها في كل عهد.
ولئن اندثر بعض هذه المؤسسات أو بطلت وظيفته، فإن عدداً هاماً ما زال قائماً، بعضها بحالة جيدة من الناحية المعمارية، والبعض يستخدم في الأغراض التجارية والصناعية التقليدية، وبعضها عاد سيرته الأولى، فتحول إلى مقر للقنصليات والسفارات الأجنبية، بعد أن كان مقراً للجاليات الأجنبية.
أولاً: أهمية بلاد الشام والمنطقة العربية في التجارة العالمية:
لا شك أن المنطقة العربية تتمتع بموقع جغرافي متميز بين القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، ظهرت أهميته الاستراتيجية منذ أقدم العصور، وخوّل هذا الموقع سكان المنطقة ودولها السيطرة على التجارة العالمية، ونقل السلع بين بلدان الشرق والغرب، في البر والبحر.
كما لعب هذا الموقع دوراً هاماً في سيْر أحداث التاريخ العالمي، تأثرت به دول المنطقة والدول المجاورة لها، سلباً وإيجاباً، فجلب لها الخير والشر.
وتناوبت دول المنطقة السيطرة على التجارة العالمية ونقل السلع المحلية والأجنبية في رحلات تجارية منتظمة، عبر طرق ومحطات، توزعت بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب.
وتمكن تجار اليمن منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولاسيما في عهد دولتي سبأ ومعين من السيطرة على طرق التجارة، بين جنوب المنطقة العربية وشمالها، وعلى طريق التجارة البحري، لنقل السلع من الصين والهند وفارس.
ثم نشطت شعوب الأنباط والتدامرة والمناذرة والغساسنة وأهل الحيرة والحضر، في السيطرة على النشاط التجاري بين بلدان المنطقة (الشام والعراق ومصر وجزيرة العرب) وبعض جزر اليونان، وبين الشرق الأقصى، كالهند والصين وفارس.
* النشاط التجاري من بلاد الشام إلى جزر اليونان:
ومما يدعو للإعجاب أن يحقق شعب تدمر القاطن في بادية الشام تفوقاً في النشاط التجاري، خلال القرون الأولى للميلاد، ولاسيما بعد سقوط دولة الأنباط ووصلت قوافل التدامرة إلى موانئ الخليج لتجلب بضائع الهند إلى بلاد الشام متنقلة بعد ذلك من (دورا أوربوس) على الفرات فإلى أنطاكية على البحر المتوسط، حيث تنتقل السلع من الموانئ السورية إلى جزر اليونان موانئ الإمبراطورية الرومانية، وتجوب قوافل أخرى الطرق الممتدة بين تدمر والبحر الأحمر ومصر واليمن مارة بالبتراء (سلع).
وينتقل النشاط التجاري بعد سقوط تدمر إلى المحطات العربية الأخرى في أطراف العراق، كالحيرة والحضر، طوال عهد الدولة البيزنطية، مستفيدة من الصراع الدائر بينها وبين دولة الفرس، ويستمر ذلك حتى الفتح الإسلامي، وتشير المصادر إلى ما حصل عليه أهل الحيرة من الثراء جراء النشاط التجاري الذي انعكس على حياتهم، فسادها الترف والتأنق الحضاري، كما عبّر عنه الرواة والشعراء.
أما الحجاز فكان له الصدارة في التجارة مع بلاد الشام قبل الإسلام، وكان لقريش، بالاتفاق مع الحكام البيزنطيين، أن تنزل قوافلها في مدن بصرى والقدس وغزة، وغدت بصرى الشام سوقاً مفتوحة لتجار قريش، وكان في إحدى قوافلها إلى بصرى الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم، قبل النبوة.
ويتحول سكان المنطقة، بعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب وانتشاره، إلى أمة واحدة، تحكمها دولة واحدة قوية عاصمتها دمشق، وتمتد حدودها إلى الهند والصين شرقاً، وإلى إسبانيا والأطلسي غرباً، وتسيطر كذلك على البحار الهامة (الأبيض والأسود والأحمر والمحيط الهندي)، وعلى جزر عديدة، كصقلّيا وقبرص ورودوس وغيرها، وكان طبيعياً أن تصبح السيادة على التجارة العالمية لشعوب هذه المنطقة بما لديها من تقاليد موروثة، ومهارات وخبرات عريقة.
وهكذا أصبحت المنطقة العربية خلال عهود طويلة أكثر أهمية ونفوذاً عن ذي قبل في ميدان التجارة العالمية.
وبالرغم مما أصاب العالم الإسلامي من تمزق وتجزؤ من الناحية السياسية، فإن شعوبه ظلت متواصلة متعاونة في النواحي الأخرى، ولاسيما منها التجارية والاقتصادية، وظلت الأسواق هنا وهناك عامرة بسلع الشرق والغرب.
وغصت المدن الكبرى والطرق الرئيسة بالمؤسسات الاقتصادية المختلفة، وبمحطات القوافل، كالفنادق والخانات والقيساريات والوكالات، التي مازال العديد منها باقياً إلى يومنا هذا، وتعتبر شواهد حية على ذلك النشاط المتميز.
وتظل المنطقة العربية في القرون الأخيرة محتفظة بمكانتها التجارية بالرغم من انتقال التفوق والنفوذ إلى الدول الأوروبية، في أعقاب حركة الاستكشاف والاستعمار، والسيطرة بالتالي، على البحار والطرق العالمية، ولكن تبقى الصّلات قائمة بين الجاليات الأوروبية والبيوتات التجارية في العديد من الموانئ والمدن الكبرى في المنطقة العربية.
أشارت المصادر إلى تخصص بعض الخانات والقيساريات بتجار الفرنج، مثال ذلك قيسارية ابن اليافي في دمشق.
وظل العديد من الخانات مقراً لهذه الجاليات حتى نهاية الانتداب الفرنسي، عرفتُ في حلب واحدة تقيم في خان النحاسين وأخرى في خان الجمرك.

 ثانياً: المصطلحات الخاصة بالمنشآت التجارية القديمة ووظائفها
الحديث عن المنشآت القديمة التي لعبت دوراً هاماً في النشاط الاقتصادي المحلي والعالمي، يستوجب التعرف على ما كانت تحمله من مُسميات اختلفت باختلاف الزمان والمكان، وتبعاً للوظيفة التي تشغلها وما يمارس فيها من نشاط.
وتأصلت هذه المُسمّيات كمصطلحات أساسية شاعت على الألسن، وتناقلتها كتب الرحلات والتراجم، وأثبتتها النصوص والوثائق التاريخية، مما سيتوضح لنا من خلال الدراسة التي توصلنا إليها للمصطلحات التالية: السوق – الفندق – الخان – القيسارية – الوكالة.
1- السوق:
السوق كما هو معروف، مصطلح عربي قديم، بل هو أول المؤسسات الاقتصادية التي عرفتها المجتمعات الحضرية، وكان للعرب قبل الإسلام أسواق مشهورة في المدن وخارجها، اشتهر بعضها كمنتديات ثقافية. وقد فسّرت بعض المعاجم هذا المصطلح بالعبارة التالية: سميت السوق سوقاً لأن الناس يقفون فيها على سوقهم وهي كلمة يصح فيها التذكير والتأنيث.
وحصلت الأسواق في مدن بلاد الشام على عناية من حيث العمران والعمارة، وتنوعت وظائفها بحسب السلع أو المهن التي خُصّت بها، وغدا معظمها مسقوف الفناء، وأحسن مثال لهذا النوع من الأسواق نجده في مدينة حلب القديمة التي تغطيها قباب بنيت بالحجر المنحوت، وزودت بفتحات للنور والهواء، وغدت الأسواق في العهد العثماني تضم مؤسسات ضرورية في كل منها، كالخان والمدرسة والمسجد والحمام، وأحسن مثال لمثل هذا النوع من الأسواق نجده في أسواق دمشق: البزورية والخياطين والحميدية.
2- الفندق:
كلمة معرّبة، وهي من أصل لاتيني، أخذها العرب عن الفرنج خلال الحروب الصليبية، لأننا لم نجد لها ذكراً في المراجع السابقة للقرن السادس الهجري (12م)، وقد ورد في الموسوعة الإسلامية أن أصل الكلمة يوناني (باندوخيتو)، ثم انتقلت إلى اللاتينية وأصبحت (فنداجي).
لقد أُطلق الفندق كمصطلح على المباني التجارية المنشأة داخل المدن، وعلى محطات القوافل المقامة على الطرق العامة، وشاع استعماله في بلاد الشام بشكل خاص منذ القرن السادس الهجري (12م) حيث عثر على أقدم استعمال لهذا المصطلح عند المؤرخ ابن عساكر، وذلك خلال حديثه عن الفنادق الموجودة في أيامه بمدينة دمشق، وذكر منها عشرةً، وأضاف إليها المؤرخ أبو شامة اثنين آخرين. (كما عثرنا في النصوص المنقوشة على المباني القديمة خبراً عن اثنين لم يأت ذكرهما عند المؤرخين المذكورين، أحدهما يسمى فندق الحلبيين، ورد ذكره في نص وقفي منقوش على باب الجامع الأموي الشمالي (باب الكلاسة)، مؤرخ في تسع وثلاثين وستمئة (1241م). والثاني ورد ذكره في النص المنقوش على باب جامع التوبة الكائن بمحلة العُقيبة، وهو مؤرخ في عام تسع وأربعين وستمئة (1251)، ويقع الفندق المذكور غربي (دار البطيخ) التي كانت في محطة (تحت القلعة) أسفل سوق ساروجة وتسمى هذه المنطقة اليوم بسوق الهال.
على أن الفندق الوحيد الباقي إلى يومنا هو محطة القوافل الواقعة على الطريق بين دمشق وحمص، قريباً من بلدة القُطيفة، والمعروف باسم خان العروس، على الطريق ذاتها.
لكنّا عثرنا على نص منقوش على الحجر فوق بوابته تمكنا من نشره كاملاً قبل فقده في عام 1973 يسميه فندقاً وينسب بناءه إلى السلطان صلاح الدين، سنة سبع وسبعين وخمسمئة (1181م).
ويضمحل اصطلاح الفندق في العهود اللاحقة، ليظهر في عصرنا كترجمة للمصطلح الأوروبي (أوتيل- Hotel) الذي أطلق على المؤسسات الحديثة المخصصة لنزول السياح والمسافرين.
3- الخان:
وهو مصطلح فارسي معرّب، ويعني القصر أو المنزل الكبير، وأقدم ما عثرنا عليه في النصوص العربية لهذا المصطلح يرجع إلى القرن الثالث الهجري (التاسع ميلادي)، وذلك عند البلاذري المؤرخ، حين تحدث عن أحد الثغور الشامية القريبة من أنطاكية، قال: «وكانت منازلها كالخانات». ولعله قصد بالمنازل ليس المساكن العادية، بل منشآت مخصصة لنزول الغرباء، لأننا عثرنا على ذكر لهذا المصطلح عند مؤرخي القرن السادس الهجري، حيث ذكر القشلاني موقعاً قرب دمشق سماه «منازل العسكر»، وذكر ابن عساكر منازل عديدة في ضواحي دمشق، ويبدو أن المنازل لم تكن منشآت كالخانات والفنادق، بل أماكن مخصصة لنزول الغرباء والقوافل أو معسكرات للجند.
وهناك أبنية في البادية من العهد الروماني يطلق عليها اسم الخانات، كخان الحلابات وخان التراب، لكنّا نرجح أن إطلاق اسم الخان عليها كان في وقت متأخر عن عهد بنائها.
أطلق مصطلح الخان فعلاً منذ العهد الأيوبي على منشآت التجارة والسفر إلى جانب الفندق، وبدأ بالشيوع كمرادف له، ومع أننا لا نجد عند ابن عساكر من القرن السادس الهجري أي ذكر للخانات فإننا نجد المؤرخين الذين أتوا بعده، أخذوا يفضلون كلمة الخان، حتى أن الرحالة ابن جبير الذي زار الشام في العهد الأيوبي، حين مر بفندق صلاح الدين الذي مرّ ذكره، أسماه «خان السلطان».
وما زالت سورية تحتفظ بالعديد من الخانات من مختلف العهود، داخل المدن وعلى الطرقات العامة.
أما من حيث الوظيفة، فإننا نجد الفنادق والخانات مخصصة للأغراض التجارية والسياحية بشكل عام، فهي إما محطات لقوافل التجار والمسافرين والحجاج من الطرق العامة، وإما منازلُ للتجار وأماكن لبيع السلع داخل المدن ويبدو أن معظم الخانات، ولا سيما في العهود الأخيرة، كان كل منها مخصصاً لسلعة معينة أو مهنة من المهن والصناعات، كما يظهر من الأسماء التي أُعطيت لها، أو ما ذكرته المصادر التاريخية عن نشاطاتها.
ونذكر فيما يلي ما عثرنا عليه من أسماء السلع والمهن التي اقترنت بعدد من الفنادق والخانات، وقد بلغت ثلاثين سلعة ومهنة أطلقت على مجموعة من الخانات: خان الملح – الطحين – الزيت – الرز – البيض – العنب – اللبن – البرغل – الصنوبر – الصابون – الحرير – الحِنّاء – الخشب – التتن (التبغ) – القطن – الجوار والرقيق – الجمرك – الزعفرنجية – الخضيرية – الدقاقين – الخياطين – النحاسين – الماردانية – النسيج – الفتالين – الجوخية – الألاجة (نوع من النسيج) – العلبية – الدواليب (للف الخيوط) – الفرايين (بائعي الفراء).
4- القيسارية:
تُجمع على قيساريات وهي معربة عن الكلمة اللاتينية (Caesarum) وتعني في الأصل البناء الملكي أو الامبراطوري، اشتقت من كلمة Caesar (قيصر) لقب أباطرة الرومان.
شاع هذا الاصطلاح في العهد العربي الإسلامي، وأطلق على المباني ذات الوظيفة الاقتصادية المخصصة للمهن والحرف، وأحياناً لسلعة من السلع.
وبعضها لنزول التجار، أو لسكن الجاليات الأجنبية، ويختلط الأمر في القرون الأخيرة فينتفي التمييز بين القيسارية والخان.
ونذكر هنا ما عثرنا عليه من الوظائف التي اقترنت بأسماء القيساريات، وهو: قيسارية الصباغ – القواسين (صانعي أقواس الرماة) – السلاح – مسبك الفولاذ – القطن – البهار – نسج الحرير.
وأقدم استخدام لهذا المصطلح عثرنا عليه، يرجع إلى العهد الفاطمي، حيث ذكر المؤرخ ابن عساكر خبراً عن القيسارية الفخرية، ونسبها المؤرخ ابن تغري بردي إلى الشريف فخر الدين، متولي القضاء في دمشق في أيام الظاهر العبيدية، المتوفى عام 434 للهجرة.
5- الوكالة:
شاع هذا المصطلح العربي في مصر بشكل خاص، منذ العهد المملوكي، وأطلق على المؤسسات ذات الصفة التجارية والمهنية كمرادف للخان والقيسارية، ولم نعثر على استعمال له في سورية والبلاد الشامية الأخرى إلا أننا وجدنا عبارة «دار الوكالة» عند المؤرخ ابن عساكر، دون إيضاح لوظيفة هذه الدار التي تبدو كإحدى المؤسسات العامة وكانت في دمشق على أيامه، أي في القرن السادس الهجري لكن المحبي في كتابه «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» يذكر وكالة من العهد العثماني في دمشق ويشرح لنا معناها، شعوراً منه بأنها اسم غريب وغير شائع فيقول: «والوكالة اسم للخان في عرف المصريين، والدمشقيون يسمونها قيسارية». وتعتبر وكالة الغوري في القاهرة اليوم أشهر الوكالات المعروفة وهي من العهد المملوكي، تنسب للسلطان قانصوه الغوري، شيّدت حوالي عام 910هـ (1505م)، وتشبه هندستها الخانات والقيساريات، لكنها مؤلفة من خمسة طوابق، بدلاً من طابقين.
ثالثاً: الخطوط العامة للهندسة والفن المعماري في العمائر الاقتصادية القديمة:
من السهل التعرف على هندسة هذه المنشآت وتصميمها المعماري وعناصرها الفنية التي تمثل العصر الذي أنشئت فيه، فما يزال العديد منها باقياً بحالة جيدة، شواهد حية أمام أعيننا، لاسيما تلك التي شيّدت في العهد العثماني، والذي بلغت فيه قمة تطورها، فالخانات المقامة على الطرق العامة كمحطات للقوافل، كانت ذات طابق واحد مؤلف من فناء حوله قاعات واسعة، ومسجد أحياناً، بينما جُعلت الخانات والقيساريات المقامة داخل المدن من طابقين، وتتكون من فناء سماوي جُعل في معظم خانات العهد العثماني مغطى بسقف من القباب، ويتوسط الفناء بركة ماء، ويحيط به مستودعات وإسطبلات في الطابق الأرضي، بينما الطابق العلوي مؤلف من مجموعة من الغرف مفتوحة على رواق مشرف على الفناء، وهي مخصصة لنزول المسافرين ومكاتب للتجار، وقد يتوسط المسجد أو يقام في ركن من أركان الطابق الأرضي. وتزودنا المصادر وكتب الرحلات بوصف لما اندثر من هذه المنشآت، ولاسيما منها القيساريات التي لم يبق منها سوى النذر اليسير.
وصف المؤرخ ابن كثير قيسارية يلبغا في دمشق المشيدة في العهد المملوكي عام (747هـ/1346م) بقوله: «إن داخلها قيسارية تجارية، في وسطها بركة ومسجد، وظاهرها دكاكين، وأعاليها بيوت للسكن».
ونجد وصفاً مفصلاً لقيسارية أخرى زائلة هي قيسارية الأمير قجماس الإسماقي نائب السلطنة في دمشق، وفي وقفية مخطوطة، ورد فيها ما يلي: «يُغلق عليها باب خاص مبني بالحجارة المنحوتة في جدارها القبلي، يُتوصل منه إلى دُركاه (دهليز) مسقوفة، يُستطرق منها إلى ساحة سماوية مبنية جُدُرُها بالحجارة المنحوتة، وبها بركة ماء يجري إليها الماء من نهر القنوات، وتشتمل على ثماني قاعات معدة لنسيج الحرير، لكل منها باب خاص، وشباك مطل على الساحة المذكورة ولكل منها منافع ومرافق».
ويحسن أن ننهي هذه الفقرة بإيراد ما سجله الرحالة الأجانب في القرون الماضية من وصف لبعض الخانات وما تركته في نفوسهم من انطباعات.
لقد وصف الرحالة الفرنسي Darvieux الذي زار دمشق عام 1660م خاناتها بقوله: «إنها مبنية بناءً متقناً، توجد في الطابق الأرضي المخازن، وفي العلوي أروقة تؤدي إلى الغرف، حيث لكل منها قبة مصفحة بالرصاص».
ووصف الشاعر الفرنسي المشهور (لامارتين) الذي زار دمشق في عام 1833 خان أسعد باشا العظم بأن غرف التجار كانت في الطابق العلوي، وأن التاجر المرموق كان يستأجر غرفة ليضع فيها بضاعته الثمينة، ونعتقد أنه يقصد بذلك التجار الأجانب، ويضيف قوله: وكان في جانب الخان اسطبل لخيل المسافرين والقوافل: وأبدى لامارتين هذا دهشته العظيمة حين وقف يتأمل بوابة الخان الرائعة البنيان، فوصفها بقوله: إنها قطعة من العمارة الإسلامية لا نظير لها في العالم، ثم سجل الشهادة الهامة التالية: «إن شعباً فيه مهندسون لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا البناء، وعمالٌ قادرون على تنفيذه لجدير بالحياة والسعادة».

الخميس، 4 أغسطس 2011

الزجاج في الحضارة الإسلامية


صناعة الزجاج من الحرف القديمة
تعد صناعة الزجاج من الحرف العريقة المتوارثة التي تستمد مادتها من البيئة، حيث تعتمد على مخلفات الزجاج كمادة خام، وعلى الألوان التي يختارها الحرفي.
شهدت هذه الصناعة تطوراً كبيراً وملحوظاً في العصر الإسلامي في بلاد الشام وفي دول المغرب العربي، حيث برزت الزخرفة الإسلامية علىى سطح المرايا والقوارير بألوانها المطلية بالذهب وبالنقوش المتداخلة وخطوط الرسوم الهندسية التي تميز بها الفن الإسلامي، وفيما بعد أدخلت عليها تقنيات حديثة كأشكال بديلة عن النفخ التقليدي، لارتباطها بفن العمارة، فاكتسبت أهمية كبيرة .

قديماً اتبعت طريقة النفخ، التي تعتمد تعبئة الهواء داخل قوارير وقوالب الزجاج بعد تسخينها وصهرها بدرجات حرارة عالية حيث يتم النفخ في كتلة العجين الزجاجي لتنتج أشكالاًمختلفة من المنتجات الزجاجية كالأباريق والمزهريات وعلب الحلوى وصناديق الزينة والقوارير، يحدد الحرفي الشكل والحجم النهائي للقطعة المراد تكوينها، ويختارلاحقاً نوع الزخرفة والنقش على سطحها.
يتميز حرفي صناعة الزجاج بمهارات عالية، فبعد خضوعه إلى عملية تدريب متواصلة تستمر لسنين عدة، ليتمكن من إتقان الصنعة، التي تتطلب منه الصبر والمثابرة، نظراً لوقوفه أمام أفران مرتفعة الحرارة، ولكن لابد من توفر القدرة الإبداعية والفنية لديه لاكتساب المزيد من المهارة وفن الإبداع، ليتمكن من مواكبة الزمن والتطور وإنتاج نماذج مختلفة بين الحين والآخر.

تعد صناعة الزجاج من الصناعات الكيماوية المهمة التي سجل فيها علماء المسلمين نبوغا وبراعة، حيث أصبحت القطع المنتجة تستعمل كأحجار كريمة، لارتفاع أسعارها، وجودة وإتقان صنعها بعد إدخال عليها تحسينات كثيرة باستعمال التزيينات الفسيفسائية، فتنوع الإنتاج بين الألواح الزجاجية الملونة وغير الملونة، و الصحون والكؤوس والمزهريات والأباريق والمصابيح وزجاجات الزينة لحفظ العطور الأقداح والأواني والثريات، وكذلك في صناعة الأختام وأدوات الزينة وكثير من الأدوات المنزلية. ليصل الإبداع الأوج بظهور العدسات الطبية لتصحيح النظر والتي سميت «منظرة». كما استعملت الأدوات الزجاجية في المخابر فاتكر الانبيق والاثال الأجزاء السفلى من آلة التقطير.
ونظراً لما وصل إليه المسلمون من فن الإبداع تفننوا في زخرفة الأواني الزجاجية زخرفة رائعة مستخدمين الأصباغ المعدنية المقاومة للتقلبات الجوية مما أكسبها الصمود منذ فترات زمنية بعيدة محتفظة بألقها المبهر وألوانها الجميلة، وقد كتب على بعضها أبيات من الشعر الرقيق،.

وبوصول الحرفة إلى الأوج ابتكر المسلمون التزجيج، وما زالت روائع من أعمالهم في التزجيج باقية في واجهات المساجد والأبنية الأثرية، إضافة إلى ما هو محفوظ في المتاحف العالمية، وبهذا يكون العلماء المسلمين من أوائل من تعامل مع البلور، وهو الزجاج الممتاز «الكريستال بحسب التعريف الكيماوي الحديث» لاحتوائه على نسب مختلفة من اكاسيد الرصاص، وما زالت أسس الصناعة التي أرساها المسلمون  تستعمل حتى اليوم .
وصلت صناعة الزجاج أوجها في ظل حكم الدولة العباسية في بغداد والدولة الأموية في الأندلس، فازداد الطلب على الأنواع الجيدة منه نظراً لغرق العالم الإسلامي في بحور من الترف والمال، وازدهرت صناعة الزجاج واقتنت ربات القصور أدوات فخمة من الأطباق والقناني والمزهريات والكؤوس وأدوات العطر والزينة المصنوعة من الزجاج الفاخر.
وفيما بعد ابتكرت مصر طلاء الزجاج بالميناء بلون فضي لامع بعد طلاء الزجاج بمركبات الفضة، ليسخن الإناء الزجاجي للحصول على ألوان بنية وصفراء، لتنتقل الحرفة إلى حلب فدمشق لننتج الشام أجمل الفازات والمزهريات المطعمة والمطلية بالميناء.
 ليظهر لاحقاً الإبداع في صناعة الزجاج المطلي بالميناء في استانبول لانتقال المبدعين من شتى العواصم إليها وبخاصة الدمشقيون، دل على ذلك مصابيح مسجد «آيا صوفيا» وغيره من مساجد الأناضول، والتي زينت بمئات المصابيح المدلاة.
هذا وقد عرف المسلمون أنواعا عديدة من الزجاج، عرفت بمسميات مختلفة أهمها الزجاج الصافي «البلور» وأجوده «الشفاف الرزين» الذي تشتهر به البندقية وهو«المورانو» الآن.
ليعرف العالم فيما بعد قرابة ثمانمائة عام أنواع التراكيب الزجاجية المختلفة، التي تحمل خاصية واحدة، أويتميز بعضها ابمجموعة من الخواص المتوازنة، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التراكيب إلا أن تسعين بالمائة من جميع أنواع الزجاج المعروف يصنع من المواد نفسها التي استعملت في صناعة الزجاج في الحضارة الإسلامية، وربما ما قبلها.