الثلاثاء، 28 يونيو 2011

عدنان العجلاني 1923-1996


مشيت بخطوات متسارعة، في شارع أبو رمانة دمشق، لأصل في الوقت المحدد للقاء لي مع الأميرة بديعة الحسني الجزائري، دخلت ذلك البيت الدمشقي الأنيق المتواضع، انتظرت بضعة لحظات لتطل علي  زهرة من زهرات دمشق ممن تركن زخماً أدبياً له عبقه المميز، بدأت كعادتي بالسؤال عن سني العمر الغابرة، وبدأت الأميرة بسرد فيض من الذكريات الجميلة، سألتها عن صاحب الصورة المقابلة لي فعلمت بأنه زوجها الراحل، انتهت الزيارة وعدت أحمل بعضاً من مؤلفاتها كهدية، كان القصد من الزيارة كتابة السيرة الذاتية لحفيدة الأمير الجزائري إلا أنني بعد أن بدأت بالإطلاع على كتابها قطوف باسقة وجدت نفسي أتابع بشغف سيرة زوجها المرحوم عدنان العجلاني.

ينتسب الفقيد إلى أسرة اشتهرت بالفضل حمل ثمانية من أفرادها نقابة الأشراف، وقلد ثلاثة منها الإفتاء، ولم تخرج منها مشيخة الحرف، سكن الأجداد في الميدان في الزاوية الرفاعية حيث ينتهي النسب إلى القطب الجليل أحمد الرفاعي، وهنا لا عجب أن يكون المترجم له على هذا القدر من الوقار، لانحداره من أسرة عرف عنها الفضل حيث يعود بنسبه إلى جده لأبيه الشيخ عبد اللطيف العجلاني، نقيب أشراف زمانه، وهكذا ولد عدنان في دار جده في زقاق سيد عامود منطقة الشاغور عام 1923، وفجأة ومع دوي المدافع، وقصف الطائرات الفرنسية للمدينة، هرع الجميع بحمل أطفاله للهرب من وابل الموت للنجاة بالأرواح .

توفي والده وهو مايزال غضاً، فرعته أمه السيدة مسرة أخت العالم الشيخ أديب متولي، فكبر على الخلق الحسن نشأ عصامياً، انتسب إلى الكلية الحربية بعد نيله الثانوية ليتخرج منها بتفوق عام 1948، لينخرط في الحياة العسكرية ضمن حامية دمشق، ولكن حسه الوطني دفعه إلى طلب التواجد في الخطوط الأولى وكان له ماأراد فتم فرزه في 18 أيار من نفس العام ليكون برفقة سليم القنواتي شهيد مستعمرة نجمة الصبح الصهيونية، حيث حمل صديقه بالرغم من إصابته شهيداً إلى منطقة الصنمين،  ليعود إلى الجبهة فور تضميد جراحه، ليشارك في الهجوم على مستعمرة الدردارة، وفي تحرير مستعمرة مشمار هايدن تحت إمرة العقيد عدنان المالكي، ونظراً لشجاعته رفع إلى رتبة ملازم أول ، فشارك في ميادين القتال أينما تواجدت فرقته، شارك في الهجوم على تل العزيزيات واحتله، وقاد معركة قرب سمخ جنوب طبريا، فاستحق مع زملائه وسام البطولة، وأثناء عبوره منطقة مخاضة أصيب إصابات بالغة جراء قصف جوي عنيف، حمل آثارها طيلة حياته، وفيما بعد قارع الاستعمار الفرنسي مما أدى به إلى سجن المزة مع ثلة من زملائه، و بعد الاستقلال منح أوسمة عديدة  تقديراً لوطنيته وشجاعته.

جمع عدنان شمائل كثيرة، فهو لم يكن وطنياً ومحارباً جسوراً فحسب بل كان زوجاً محباً و أباً عطوفاً، ومواطناً صالحاً أحب وطنه، وبذل الغالي في سبيل رفعة شأنه، وذلك من خلال خدمات ٍقدمها أثناء تواجده ضمن الملاك الحكومي، تشهد على ذلك خدمات جليلة قدمها لمواطني الجهات البعيدة التي انتدب إليها، والتي حفظتها له أجيال تلك المناطق بثناء مشهود لسنين، أحيل إلى التقاعد عام   1963نظراً لمواقفه الفكرية.

 إضافةً لما تقدم كان للمترجم له مسيرة أدبية، كشفتها أوراقه الخاصة التي حملت في ثناياها بعضاً من أدبياته وسماته الإنسانية المتميزة، و بالعودة إلى بعض تلك الأوراق، يطل عدنان العجلاني في وجه آخر وجه الأديب المتمرس،  كثرت رسائله و خواطره  التي انبعثت من حبه لوطنه و أسرته و رفقاء دربه و إلى كل من حوله، وضح ذلك من خلال يومياته التي بدأها في 14 شباط عام 1941، بدأها بمأساته ومعاناته بفقده والده فكتب ـ"مات أبي" وفيما بعد تتالت كتاباته، فكان منه قطعة نثرية أخرى أهداها إلى والدته تعبيراً عن حبه فقال:
هي بسمة الصباح للروض الباكي
هي هزة النسيم للجسم الرطيب
هي نغمة الحياة في الجسم الهزيل
في 15 آذار عام 1942ضَمَنَ أوراقه سجل أحزانه ، و هذا ما نراه تحت عنوان "أين أخي"
أين أخي... أنت في قلبي حيث ذهبت و حيث حللت
اغبر وجه الزمان.. واسود ضياء الشمس.. وحال بيني وبين السرور حاجز
إني سأبكيك ما شاء لي أن أبكي.

احتل إيمانه القوي  وشفافيته جزءاً كبيراً من تأملاته الفكرية، فمزج الرؤية الدينية بالتأمل العقلي و المناجاة الإلهية و تجلى ذلك في أول صفحة من يومياته في مدونته "إلى خير من يرحم"، و هكذا اتخذ من القلم الصديق الوفي ليركن إليه أيام المحن فوجد فيه متنفساً و راحة ليخلد أجمل أحاسيسه الوجدانية، بموضوعية فلسفية، يتجلى ذلك عندما يقول:
أنا حين أنظم الشعر
أحيا حياة لا أتم و لا أكمل لأنني أحيا بإدراك أوسع حين أعرف طعم الإعراب عن النفس، ليس من الضروري أتن يكون شعري عظيماً أو خالداً و حسبي أنه يخفف من دموعي و يخلد و لو في صورة غامضة لوناً من ألوان أحلامي و أيامي.

 تعددت كتاباته بين "نجوى و"رثاء لصديق" و "أحلام وردية"و "البرعم الحي"، وتعددت موضوعات أشعاره بين الغزل العذري، والشعر الفلسفي والشعر الوطني، فكتب قصيدة خيال بلادي، وتحدث في قصيدة وطني عن مأساة وطنه الجريح، ووصف في قصيدة" الاحتلال" فرحته برحيل المستعمر حيث قال:
رحلت فرنسا فالجحيم مقرها       فلقد دعاها للهزيمة موعد
  كثرت قصائده الشعرية فكان منها " مناجاة الحسون" " اللقاء الأخير" " انتحار قلب" " الأيام الخوالي" " أنا والزمن" " شكوى" " عتاب" الزورق الحيران" الشعور الغامض"صدود" دمعة" القدر المحتوم" وتفردت قصيدته الموجة العذراء بإيقاع موسيقي ومضامين رمزية عن غيرها من القصائد، وغيرها كثير، ومن خلال متابعة نتاجه الأدبي يرى أنه لم يسع ليكون شاعراً فقط بل عبرت كتاباته عن فلسفة إنسانية عميقة.

له مجموعة قصصية مثيرة بدأ بكتابتها عام 1950 منها "الشقيقان" الخطأ" البكالوريا،"الجرح" الصياد" الهاربة"سفسطة لغائية.

أخذتني قراءة سيرته الذاتية إلى مابعد منتصف الليل، فقرأت بعضاً أشعاره وبضعاً من قصصه التي تميزت بلغة عربية غاية في التماسك وبعد قراءتي لقصة الجرح، وكانت الساعة تقترب من الثانية صباحاً، أطفأت الأنوار لأخلد إلى النوم، وفجأة لمحت ظل ذلك الشيخ الأنيق بطل القصة يقف في الردهة المجاورة ينظر إلي فقلت بسم الله الرحمن الرحيم ، وقفزت لأنير الغرفة، وبقيت بقية الليلة شبه مستيقظة، أنتظر عودة الشبح وحبيبته بطلا القصة من جديد،  أنا لم أعرف المرحوم عدنان العجلاني يوماً، ولكني تمنيت لو استمتعت بمجالسته ولو لدقائق، قبل أن يغيبه المرض العضال وينهي رحلة حياة رجل من رجالات دمشق التي قال فيها :
 بها الأحبة كالأسماك قد عاشوا                      وتفرقوا في غورها أسرابا
إن عاشت الأسماك خارج مائها                      فمن الممكن أن نطيق عنها اغترابا

توفي العميد عدنان العجلاني في السادس من أيار عام 1996، لينضم إلى من سبقه من  رعيل الشهداء الأول شهداء السادس من أيار عام 1916، حاملاً أوسمته على جسده وهي آثار لجروح عميقة خطها طلبه للشهادة.
 دفن عدنان العجلاني في مقبرة الباب الصغير في دمشق، الفارس الذي حمل صفات الفرسان، وتحلى بشجاعتهم ونبل أخلاقهم، وكرمهم، رحمه الله فقد كان خير مثال للبطولة والمروءة والكفاح، هو واحد من كثير ممن أنجبتهم دمشق لتَخلِد بهم ويَخلِدوا بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق