الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

"حي الميدان" أصالة لاتنتهي


حي الميدان "  بوابة دمشق الجنوبية

أطلق اسم الميدان على  المنطقة الواقعة جنوب غرب مدينة دمشق، لوجود ميداناً رحباً واسعاً، تُقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية ومصارعة. على أن الميدان لم يكن مقتصراً على هذه السباقات كما يرى الباحث الفرنسي جان سوقاجيه، بل كان ينزل به ويخيّم كلّ من تضيق المدينة عن إيوائه من الناس.


يعد حي الميدان أكبر ضواحي دمشق على الإطلاق، في جهتها الجنوبية. أقدم ذكر له كان في العهد الفاطمي، كما ورد لدى المؤرخ الدمشقي أبي يعلى القلانسي في كتابه "ذيل تاريخ دمشق" في حوادث سنة 363هـ. والجدير بالذكر أن به إلى اليوم مسجد قديم يعود إلى العهد الفاطمي، يٌعرف بمسجد" فلوس".ذكره في القرن السادس الهجري، ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" بقوله: "حارة الميدان المعروفة بالمنية".  ذكره  الباحث عيسى اسكندر المعلوف بأنه يعود إلى العهد الأموي تحديداً، فيقول: "وعقد الوليد بن عبد الملك ميداناً لسباق الخيل"..

سمي قديماً بميدان الحصى( الميدان التحتاني، اليوم)، تعود التسمية إلى تربته اللحقيّة المفروشة بالحصى، لوقوعه على مفاض سيل فرعي بردى القنوات والدّاراني.
لم تشهد ضاحية الميدان العمران الفعلي حتى العهد المملوكيّ (648-923هـ)، لوجود المدينة  ضمن السّور، عدا (العقيبة والصّالحية)،  حيث توكل على حمايته فتية الحي من هجمات اللصوص وقطاع الطرق والغزاة، مما ميزه بوجود " القبضايات والزكرتية" بكثرة فيه.

وفي لقاء مع إمام جامع الزيتون "عبد الهادي المؤذن" أفاد: بدأت الضواحي السكنية بالظهور خارج أسوار مدينة دمشق في العهد المملوكي، منها السويقات؛ كالسويقة وسوقة صاروجا، عدا التوسعات التي طرأت على الصالحية والعقيبة. ومنها أيضاً ضاحية الميدان التي بُدئ بعمارتها، فظهرت فيها المساجد وبعض المدارس، واشتهرت بزواياها الكثيرة، وما زال عدد كبير من هذه الآثار مائلاً إلى الآن، ومنها: جامع منجك، المدرسة القُنشليّة، الزاوية السّعديّة، تربة أراق السِّلَحدار، تربة النائب تنم (التّينبيّة)، تربة الشيخ حسن ابن المزلّق، وعدد من الترب المملوكيّة الأخرى. ولا نجد في الميدان اليوم أي بناء يعود إلى العهد الأيوبي، بل كانت آخر حدود أبنية هذا العهد عند محلّة باب المصلّى وشماليّها السويقة؛  كانت أرض الميدان قبل ذلك مجموعات منفصلة وقريّات، مثل القُبيبات؛ نواة حي الميدان الفوقاني (القسم الجنوبي من الميدان). وفيما بعد أخذت هذه الأحياء بالاتساع، حتى ارتبطت ببعضها وصارت ضاحية كاملة كبيرة جنوبي دمشق..

ليقول: أهم آثار العهد العثماني في الميدان: جامع مراد باشا،  حمام فتحي، كما تعود أكثر دور الميدان الفخمة إلى هذا العهد، ولكن تم هدم عدد كبير من هذه الدور الجميلة أواخر السبعينات عند شق الطريق المحلّق الجنوبي، كان من أجملها دار الموصلي ودار البيطار.

ويورد التاجر موفق المصري:، استقطب حي الميدان،  عدداً من أفراد السّلك العسكري المحلي (الإنكشارية اليرليّة)، لما اختص به الحي من الثراء الكبير من خلال تجارة الحبوب والمواشي والغلال الزراعية والمنتوجات الحيوانية. فظهرت طبقة كبيرة من الأعيان بالحي، جمع أفرادها بين الانتماء إلى السلك العسكري المذكور والتجارة الوفيرة الربح.

تباع في  الميدان التحتاني الحبوب بأنواعها في حوانيت فسيحة تُسمّى بَوايك (جمع بايكة)، وفيه أهراء كبيرة لخزن الحبوب، وكثير من الخانات والأحواش لربط الدّواب والجمال ولإيواء الغرباء، و معامل متعدّدة لأعمال مختلفة، وكالنسيج والحياكة، والنّشاء.. اشتهر الميدان لكونه طريق محمل الحج؛ حيث ازدحمت ضاحية الميدان قديماً بالجموع الغفيرة المغادرة والعائدة من الحج. مما زاد من أهميّته الاقتصادية، لما يرافق هذه المناسبلت من ازدهار للأسواق الموسمية الحافلة بمظاهر مختلفة وحركة اقتصادية كاملة، مما أفرز مهناً دائمة ومختلفة على مدار المواسم.


يقول المعمر الميداني "فهد القويدر" تسعين عاماً:  لم يحظ حي الميدان حتى اليوم بدراسة تاريخية وافية تلخّص مسيرته الحضارية عبر العصور، وتحصي ماتبقى من أوابده المعماريّة المهمّة، وتتقصّى تاريخه الشعبي ودور أهم عائلاته في سيرة دمشق، على صعيد العلم والدين والتربية والجهاد والفنون والصناعة والاقتصاد.  قبل أن تضيع بقيا الذكريات ممّن تبقوا من شيوخ الميدان الذين عاصروا بدايات القرن العشرين.

يقول الأستاذ أحمد الحبش سبعين عاماً، يُقسم حي الميدان في عُرف أهله إلى ثلاثة أقسام  الميدان التحتاني مما يلي باب المصلّى، ثم الميدان الوسطاني، وبعده الميدان الفوقاني عند بوابة الله. ويشقّها طريق الحج المعروف باسم "الدرب السلطاني". وفيما يلي ذكر لبعض حارات وأحياء الميدان.
 قسّمت المدينة إدارياً إلى ثمانية أثمان أواخر العهد العثماني، فكان ثُمنان منها يشملان حيّ الميدان: التحتاني والفوقاني.  وصفهما مصدر معاصر، عبد العزيز العظمة؛ ثُمن الميدان التحتاني فبدايته من السّويقة، ويشمل بداية الدرب السّلطاني، وخان المغاربة، وزقاق الأربعين، وزقاق  الأورفه لي، وزقاق النقشبندي، والقبّة الحمراء، والتّيامنة، وباب المصلى، وزقاق القملة، وقاعة النشا (تسمى القاعة اليوم اختصاراً)، وزقاق الموصلي، والتنورية، والقرشي، والعسكري، والمحمص، وزقاق البصل، والقبيبات". فيه جامع النارنج وجامع صُهيب (تربة أراق)، وجامع الزاوية، وجامع القوّاص، وجامع الرفاعي، وجامع منجك، والكريمي (جامع الدقاق اليوم)، ومدرسة الخانكيّة( محكمة الظلم، التي كانت بمثابة القصر العدلي اليوم) ، ومدرستان أميريّتان للبنين والبنات.

ليقول من أشهر أسواقه سوق الجزماتية الممتد إلى بوابة الله (باب مصر). ويضم من الأحياء والمحال: سوق الجزماتية، الحقلة، ساحة عصفور، ساحة بحصيص، والراقية، وزقاق الطالع، وزقاق البرج، وزقاق الماء، وزقاق أبي حبل، والمشارقة، والحارس، والجمّالة، والقلاينية، والنصار، وزقاق قيصر.

وفي الميدان الفوقاني: جامع الدقاق، وزاوية الشيخ سعد الدين الجباوي، ومسجد العسال وحمّام الجديد، وحمّام الدّرب، وحمّام التّوتة، وحمّام منجك، وحمّام الرّفاعي. ثم معمل السكة الحديدية الحجازية (أي المحطة وورشاتها)، ومحطة سكة حديد بيروت وتمديداتها، وثكنة المتطوّعة، والثكنة العزيزية.

اشتهر من أهل الميدان عدد من الأسر العريقة حسب الأستاذ زياد الملقي: كآل العابد، سكّر، البيطار، الحكيم، المهايني، دعبول، حبنّكة، النّوري، حتاحت، الرّفاعي، الجباوي، الحملي، سرحان، خطّاب، الميداني، الصبّاغ، السّاسة، الغبرة، البرغلي، أبو حرب، سحلول، الموصللي، الملقي...  ليعقب: ظهر في حيّ الميدان ثلّة من العلماء الأئمة، منهم: المجاهد الشيخ محمّد الأشمر، الذي نفته القوات الفرنسية خارج دمشق. العالم والفقيه عبد الغني الغنيمي، ومنهم الشيخ حسن حبنّكة الميداني، والشيخ حسين خطاب، والشيخ محمد كريّم راجح، كما أقام بينهم وما زال عدد كبير من العلماء الأفاضل.



وحول التّراث الشعبي، ارتبطت بحيّ الميدان صفات النّخوة والكرم والحميّة والشجاعة، وما زالت هذه العادات الدمشقية العريقة قائمة في حي الميدان بجميع عاداتها وتقاليدها الأصيلة، وأخلاق أهلها وتكافلهم الاجتماعي، والتّرابط في جميع الظروف، والميل الكبير إلى الحشمة والتديّن، لكونه موئل للأصالة، وعنوان لكل ما يخصّ ماضي دمشق وتراثها وجوهرها الأصيل.

يتميز حي الميدان بمطبخه العريق، حيث تكثر اليوم محلات الطبخ والحلويات والمطاعم، التي تقدّم الأطعمة من كافّة الأنواع والألوان الشرقية والغربية. وما زال أهل دمشق يفضّلون ابتياع أصناف الحلويات الشاميّة اللذيذة الشهيرة..  يُضرب المثل بالـ "العزيمة الميدانيّة".

وعليه يكون حي الميدان احد الأحياء القديمة والعريقة بدمشق، واكب تاريخ تطورها العمراني والاجتماعي،  ليكون معلماً ن معالم حضارتها وتراثها. عرف أهله بالجود والنّخوة والكرم والشجاعة، والمحافظة على شعائر الدين ومكارم الأخلاق..

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق