الأحد، 18 سبتمبر 2011

نازك العابد تاريخ مضيء لنضال المرأة العربية

 نازك العابد
       صفحة ناصعة وشعلة مضيئة في تاريخ المرأة العربية الحديث والمعاصر.

  جاء في مقال عبد الغني العطري "حكاية امرأة مناضلة" لم يشهد تاريخنا الحديث مثيلاً لنازك العابد في صدق الوطنية والكفاح المتواصل والشجاعة التي قل نظيرها في التاريخ.
ينحدر آل العابد من عشيرة الموالي استوطن جدهم محمد بن الأمير قانص في حي الميدان بدمشق عام 1700/1701 م عمل أفراد الأسرة بتجارة الحبوب و المواشي و أصبح لهم نفوذ واسع في حي الميدان.  أول من برز في دمشق منهم عمر آغا العابد الذي أجار مسيحيي حي باب مصلى وأوقف بنفوذه مشاركة سكان الميدان بأعمال الشغب في تموز 1860 م. وفيما بعد كان لآل العابد دور مهم في السياسة أواخر القرن التاسع عشر.
 في خضم أحداث تلك الفترة وقفت ثلة من النسوة السوريات إلى جانب الرجل، مناضلات مكافحات في سبيل الحرية. وعلى الرغم من محدودية المشاركة إلا أن المرأة السورية  شقت طريقها متحدية مجتمع ذكوري ذو فكر وتقاليد راسخة، حيث وقفت مجموعة من الرائدات اللاتي اقتحمن الحياة العامة عنوة، وناضلن في سبيل عزة ورقي الوطن. وبالرغم من تموضع نشاطهن الأساسي في الصالونات الأدبية والمجلات النسائية، إلا أن مشاركتهن في الهموم العامة والحياة السياسية  للوطن تركت بصمة واضحة لا يمكن إنكارها.
كان منهم على سبيل المثال  السيدة نازك العابد التي حفظ لها الوطن في ذاكرته جليل الذكر.
 أبصرت نازك العابد النور عام 1887, والدها مصطفى باشا العابد من أعيان دمشق، تولى محافظة الكرك، وولاية الموصل في أواخر الفترة العثمانية، وأمها فريدة الجلاد، من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي. ‏
وعليه نشأت نازك العابد في بيئة النخبة تعلمت مبادئ اللغات العربية والتركية في المدرستين الرشيديتين الدمشقية والموصلية ودرست الفرنسية في مدرسة الراهبات في الصالحية بدمشق، كذلك تعلمت مبادئ الانكليزية والألمانية. نفيت مع عائلتها في الحرب العالمية الأولى إلى أزمير فدخلت مدرسة الفردوس للمرسلين الأميركان. لتتابع فيما بعد تحصيلها العلمي في المعاهد الخاصة للتعليم بالإضافة إلى  تعلم فنون التصوير والموسيقا ( البيانو)، واهتمام جلي بالإلمام بعلمي التمريض والاسعاف.
بدأت نشاطها مجرد عودتها من المنفى في أواخر 1918م، بالكتابة فكتبت في بعض الصحف كلسان العرب واتخذت من مجلتي العروس ( وهي أول مجلة صدرت في سورية لصاحبتها ماري عجمي) ومجلة الحارس منبراً لآرائها وأفكارها المستنيرة الجريئة،  كذلك شاركت في المؤتمرات النسائية الوطنية والدولية في مصر ولبنان، أسست وترأست عقب الثورة العربية الكبرى عام 1916  جمعية نور الفيحاء لمساعدة ضحايا الثورة, ناصرت في كتاباتها حق المرأة في الانتخاب السياسي عندما طرح في المؤتمر السوري1919. وتحدثت بلسان الجمعية واستكتبت سيدات دمشق العرائض اللازمة لتأييد الاستقلال أثناء وجود اللجنة كراين الأميركية لاستفتاء السوريين في الانتداب عام 1919، و قادت تظاهرت نساء المعارضة، مما أثار إعجاب مستر كراين بذكائها وقوة حجتها، فكان اسمها ضمن أبرز الأسماء في أوراقه وخواطره. ‏وقبل أن يغادر البلاد طلب منها أن تختار عدداً من الطالبات، لينفق من ماله على تعليمهن في الكلية الأميركية للبنات.
 عينها الملك فيصل بن الشريف حسين رئيسة لجمعية النجمة الحمراءعام 1920، لتصدر في أول شباط 1920م مجلة نور الفيحاء وهي مجلة أدبية إجتماعية، بهدف النهوض بالمرأة, كذلك أسهمت في تأسيس النادي النسائي الشامي الذي ضم نخبة سيدات الشام،  ومدرسة بنات الشهداء ومكتبتها، كذلك أسهمت في إنشاء مصنع للسجاد، حيث أهديت بعض منتجاته إلى بعض الملوك وخصص ريع المبيعات لصالح الأيتام. منحت رتبة نقيب في الجيش زمن الملك فيصل نتيجة لمواقفها البطولية,
حسها الوطني - والتيارات التي جاءت تعبيراً صارخاً عن معاناة المرأة ووضعها الاجتماعي هناك.
النسوية في سورية:
لم يكن في سورية ثورة على تعاليم دينية محرّفة وخلفيات تاريخية اجتماعية مغالطة كالتي ظهرت في المجتمع الغربي، تسّوق إلى الوقوع في شرك التيارات النسوية الغربية المتطرفة، بل كان هناك وعي قومي ونهوض سياسي من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي، دفع بالفكر النسوي كأولوية حقيقية نحو بلورة الجهود والنضال للتحرر الوطني من الحكم العثماني والاستعمار الفرنسي. فانخرطت النساء وجمعياتهن وحركاتهن النسوية في هذا الاتجاه، وارتفعت قضيتهن مع موجة النهوض الاجتماعي العام؛ مواطنات كن ينهضن بواجبهن الوطني قبل أن تتحقق لهن حقوقهن في المجتمع. وكانت مشاركتهن في حركات التحرر الوطني فعالة إيماناً منهن بتلازم قضيتهن مع الحرية والاستقلال، فكان للمناضلة نازك العابد (1887ـ 1959) التي شاركت يوسف العظمة معركة ميسلون بصمة حقيقية في النهضة النسوية في سورية ولبنان وفي العمل الصحفي ومحاربة الاستعمار، إذ أسهمت في تأسيس بعض الجمعيات الخيرية والنسوية مثل «نور الفيحاء»، وأصدرت مجلة أدبية نسائية تحمل الاسم ذاته هدفها نهضة المرأة السورية، وشاركت في إقامة مدارس عديدة مثل «مدرسة بنات الشهداء العربية»، وناد أدبي، وتعاونت مع الأديبة الشاعرة ماري عجمي [ر] صاحبة أول مجلة تصدر في سورية «مجلة العروس» 1910، فاتخذت من مجلتها ومجلة «الحارس» الخاصة بشؤون المرأة والمجتمع منبراً لبث أفكارها وآرائها في الكفاح الوطني والعمل ضد المستعمر التركي ثم الفرنسي الأمر الذي أدى إلى نفيها مراراً. وقد ناصرتها في مسيرتها وسارت على خطاها نساء كثيرات تمتعن بمواهب وكفاءات عديدة علمية وأدبية واجتماعية وسياسية أمثال: نجاح العطار وكوليت خوري ووداد سكاكيني وهاجر صادق وغادة السمان ورويدا الجراح ونازك الملائكة[ر] وفدوى طوقان[ر] ومي زيادة [ر] الشهيرة بصالون الأربعاء الأدبي وبشرى الكنفاني وغيرهن.
ومع أن سورية قد مرّت بعد الاستقلال بمرحلة اضطرابات عاصفة فإن الأحزاب السياسية التي ظهرت فيها تبنت برنامج إصلاح سياسي اجتماعي شامل تعهد بالعمل على مناصرة قضايا المرأة. فاهتمت القيادة السياسية في سورية بقضايا المرأة وقامت بإجراءات تنظيمية وإدارية ـ ازدادت وضوحاً في العقدين السادس والسابع من القرن العشرينـ تضمن للمرأة حقوقها ودورها في المجتمع، فشهدت سورية عملية تنمية اقتصادية واجتماعية وتعليمية شاملة كفلت الاستقرار على أسس دستورية، وتحققت للمرأة منجزات سياسية وقانونية وتعليمية ثقافية فتوحدت الجمعيات الخيرية والنسوية التطوعية منها والخاصة والمؤسسات التربوية في منظمة سُمّيت بـ «الاتحاد العام النسائي»، لها نظامها الداخلي ودستورها وبرنامجها الهادف نحو مبدأ العدالة والمساواة بين الرجل والمرأة ومُنح كلاهما الحقوق المتساوية للمشاركة في مختلف نواحي الحياة العامة وفي الواجبات والمسؤوليات.
عرفت نازك العابد الحس الوطني مبكرة، وتجلا الفكر القومي في ثقافتها بأدراكها تعالي معلمات اللغة التركية في الموصل على الطالبات العربيات، مما جعلها تشكل تجمعاً رافضاً لهذا التعالي مما تسبب في طردها من المدرسة ونفيها وعائلتها الى مدينة ازمير التركية، لتعود بعدها إلى الوطن وفي أجواء دمشق تناما شعورها الوطني وازدادت قناعتها بضرورة التنوير من خلال العلم والمعرفة، للتغلب على الجهل والظلم، لفتت هذه الحركة نظر حاكم بلاد الشام  جمال باشا فأمر بترحيل العائلة مع بداية نشوب الحرب العالمية الأولى الى استانبول، دفعتها روحها الثائرة  فور انتهاء الحرب إلى العودة  الى دمشق، وفي دمشق استأنفت نشاطها بعد أن أنست الخير في عهد الملك فيصل واستبشرت أملاً ببزوغ فجر جديد، فسخرت مكنزها العلمي في كتابة مقالات مختلفة التوجهات في الصحف المحلية والعالمية فكان منها الوطني ومنها الاجتماعي.
 أصبحت نصيرة حقوق المرأة العربية  وباتت مجلتها ـ التي لم يطل عمرها ـ بمثابة مدرسة متنقلة، تحمل صور التطور الاجتماعي ونمو الوعي الوطني وتطالب الحكومة العربية بإعطاء المرأة حق الانتخاب السياسي، وحرية الرأي ساندها وأيد فكرها استقطاب مجلتها لأقلام أعيان المفكرين والأدباء. بالإضافة إلى تأكيد من الأستاذ العالم سعيد الكرمي، عضو المؤتمر السوري الذي عقد في دمشق في ربيع عام 1920 لتقرير مصير وحرية البلاد العربية ووحدتها.
شاركت نازك ، بوعي وبشعور بالمسؤولية، في الحياة السياسية، فحازت على مكانة اجتماعية مرموقة واستحقت ثقة الملك فيصل وتقدير حكومته، فصدر أمر ملكي بمنح، هذه الوطنية المثالية، رتبة عسكرية فخرية (نقيب).
نضالها ضد الاستعمار- ومع شروع الفرنسيون بالتمهيد للغزو وإنذار الملك فيصل بالمغادرة، واستعداد الجيش العربي لصد العدوان الفرنسي 1920بادرت إلى إنشاء مستشفى للجرحى وهيأته في بضعة أيام. ومع خيبة الأمل كشفت نازك اللثام عن شجاعة قل نظيرها  لتمضي حاسرة الوجه  بلباسها العسكري مخترقة صفوف الثوار مدافعة عن الوطن والحرية تحفز الهمم وتوقد حماسة المدافعين، ‏ وبصحبة وزير الحربية يوسف العظمة في ميسلون 24تموز1920 تفقدت الجند، ويقال أنها هرعت إليه بعد أصابته في المعركة وبأنه أسلم الروح بين يديها.
‏ وبدخول القوات الفرنسية أرض الوطن، بدأت نازك العابد نضالها ضد المستعمر لتقف مع حرائر دمشق في الإحتجاج عنوة على الانتداب الفرنسي؛ وذلك بتنظيم مظاهرات تطالب برحيل قوات الاحتلال، والاستقلال والحرية. وعليه بدأت نازك جهادها الأكبر سراً وجهراً بكل الوسائل المتاحة، فضاقت أعين الانتداب الفرنسي بنشاطها، ورصدتها شرطته، فأغلقت المجلة والمدرسة، ومنعتها من عقد ندوات خاصة وعامة، فما كان منها إلا الالتحاق في صفوف المقاومة السرية لمقارعة المستعمرين.
نفيت عن الوطن بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى دمشق نتيجة مواقفها الوطنية,  فأبعدت إلى اسطنبول لمدة عامين ( 1920 – 1922 ) وعند عودتها رصد الفرنسيين تحركاتها لإدراكهم  مدى خطورة نشاطها، تعرضت نازك العابد بسبب شجاعتها وإقدامها ونشاطها الوطني، لمضايقات شتى، اضطرتها للجوء الى شرق الأردن، حيث أصيبت بخيبات لم تكن تتوقعها، فراحت تلتمس لقضية بلادها آفاقا واسعة، تنشر فيها أخبار الثورة العربية وأسبابها وملابساتها، وحق بلادها في الحرية والاستقلال.. وساعدتها شجاعتها ويسارة عيشها على التجوال في أميركا وعواصم الغرب شارحة واقع بلادها ومطالب قومها الوطنية، على زعماء السياسة والصحافة، فحظيت بالاعجاب والتقدير، فنوهت الصحف الغربية عن جرأتها وبطولتها ولقبتها بـ «جان دارك العرب» وجعلت الرحالة والكاتبة الانكليزية «روزيتا فوريس» من مواقف نازك العابد حبكة لروايتها «سؤال» التي نشرتها عام 1922.
طال تجوال نازك بعيدة عن أهلها ووطنها، فعادت إلى الوطن بعد تعهدها بعدم المشاركة في أي عمل يمس سلطة الاحتلال، فرضت عليها السلطة الاقامة الاجبارية في مزرعتها الخاصة في ضواحي دمشق، فراحت تشتغل في الزراعة، وهناك تعايشت مع أهل الغوطة الشرقية،  فساعدتهم في تطوير العمل الزراعي، وأوقدت فيهم روح الثورة على المستعمر, فكانت أحد ثوار ثورة 1925، حيث عملت بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال. غير آبهة بخطر ما.
  ‏تقدم لخطبتها عام 1929 محمد جميل بيهم الذي مثل بيروت في المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في دمشق عام 1920 تزوجت  نازك وانتقلت للإقامة في بيروت. إلا أن وجودها في بيروت لم يثن من عزيمتها بل ازدادت نشاطاً في العمل من أجل النفع العام فأسست جمعيات اجتماعية عدة منها: جمعية المرأة العاملة، وميتم تربية بنات شهداء لبنان عام 1957. وفي السبعين من عمرها أسست لجنة مهمتها  تثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كافة. انتخبت عام (1959م) رئيسة لها، وقد أقيم بهذه المناسبة أول احتفال بعيد الأم في لبنان.
توفيت نازك العابد في العام نفسه 1959م عن عمر يناهز 72 عامًا، قضتها في النضال في سبيل عزة بلادها وصون كرامتها، ودفنت في مقبرة العائلة في باب الآس في حي الميدان في دمشق، وفي حفل تأبينها الذي أقيم برعاية الجمعيات النسائية اللبنانية تكلم المفكرون والخطباء عن الأديبة  والمناضلة السورية التي صاغت بمواقفها البطولية جزءًا مهمًا من تاريخ سوريا الوطني.
وبمقابلة خاصة مع عمتها السيدة أيمن العابد المرستاني، أفاضت السيدة أيمن في التعريف على مناقب المناضلة نازك فمنذ طفولتها تمتعت بشخصية مميزة نالت ثقة الجميع بلطف معشرها ورهافة حسها وعطفها على الغريب قبل القريب، فأثناء وجودها في الغوطة تبنت ثلاثة فتيات من بنات المزاعين وعملت جاهدة أن ينالوا فرصتهم في العيش الكريم والتعليم وذلك من خلال إرسالهم إلى مدارس أجنبية خاصة، أما عن احترام محيطها لها فتضيف السيدة أيمن بأن والدها مصطفى باشا أثناء تواجد الأسرة في المنفى كان يقف ويدعها تجلس قبل أن يجلس هو في الأماكن العامة، وبالتالي كانت تحترم وجوده فكانت تناديه سيدي عندما يكونا في المنزل، لم تنل السيدة نازك العابد بيهم مانالته قريناتها بعد زواجها فكان التعثر حليفها إلا أن كرمها وانغماسها في الأعمال الخيرية خفف شيئاً مما عانته في حياتها الخاصة، لم ترزق بولد إلا ماحرمت منه من حنان الأمومة فاضت به على كل طفل يتيم أينما وجدت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق