الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

المنشآت الاقتصادية التاريخية في بلاد الشام- د. عبد القادر الريحاوي

تعد مظهراً متميزاً للتبادل التجاري بينها وبين شعوب البلدان الأخرى من الشرق والغرب.
وكانت كل من مدينتي دمشق وحلب في طليعة المدن السورية من حيث العناية بالمؤسسات التجارية كالخانات والقيساريات، كذلك كانت طرق القوافل مزودة بالخانات والفنادق لتأمين راحة التجار والمسافرين.
فسورية كجزء من المنطقة العربية تتمتع بموقع جغرافي متميز بين القارات، ظهرت مكانتها الاستراتيجية منذ أقدم العصور، وتناوبت مع دول المنطقة السيطرة على التجارة العالمية ونقل السلع المحلية والأجنبية في رحلات تجارية منتظمة.
ولقد تمكنت اليمن منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولاسيما في عهد دولتي معين وسبأ من السيطرة على طرق التجارة ونقل السلع من الصين والهند وفارس.
ثم نشطت دول الأنباط وتدمر والغساسنة والمناذرة وأهل الحيرة والحضر، خلال القرون الأولى للميلاد وقبل الإسلام، في تولي شؤون التجارة العالمية.
وكان من أهم السلع وقتئذ، حرير الصين، وسيوف الهند وتوابلها، ولآلئ الخليج، ومنسوجات الحرير الشامي، وسلع اليمن كالعطور والصمغ والكافور والمرو.
وحقق تجار تدمر في هذه الفترة تفوقاً ملموساً، فوصلت قوافلهم إلى موانئ الخليج العربي لتجلب منها بضائع الهند إلى بلاد الشام، ثم تنقلها عبر الموانئ السورية إلى بلدان البحر المتوسط، كذلك وصلت قوافلهم إلى مصر والبحر الأحمر واليمن والبتراء.
وينتقل النشاط التجاري بعد سقوط دولة تدمر إلى الحيرة والحضر في العراق، وكان لتجار الحجاز في العهد البيزنطي نشاط تجاري هام مع بلاد الشام.
ونشط تجار المنطقة العربية بعد الإسلام وقيام الدولة العربية الإسلامية الممتدة الأرجاء، فسيطروا من جديد على تجارة البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود والمحيط الهندي، وحفلت المدن الكبرى والطرق الرئيسية في سورية بالمؤسسات الاقتصادية، الصناعية والتجارية، وبمحطات القوافل، وظلت الصّلات التجارية قائمة بين أوروبا وسورية بعد حركة الاستكشافات والاستعمار، تشهد على ذلك الجاليات الأوروبية التي تتخذ منازل لها خانات وقيساريات استمرت حتى القرن العشرين.
والحديث عن المنشآت الاقتصادية يستوجب التعريف بأسمائها ووظائفها كمصطلحات استمر استعمالها قروناً طويلة، كالسوق والخان والفندق والقيسارية والوكالة.
فمحطات القوافل على الطرق تتكون من فناء حوله قاعات من طابق واحد، بينما تتكون الخانات والقيساريات في المدن من طابقين، وقد سقفت بعض الفناءات من العهد العثماني بمجموعة من القباب، كما في خان أسعد باشا في دمشق.
* تمثل المنشآت والمؤسسات الاقتصادية التاريخية جانباً هاماً من النشاط الاقتصادي والحضاري الذي تتميز به بلاد الشام، بل هي المظهر الرئيسي لطريق الحرير والتبادل التجاري بين الشعوب على مرّ العصور.
وفي طليعة المدن التي اشتهرت بنشاطها ومؤسساتها في بلاد الشام والمنطقة العربية مدينتا دمشق وحلب اللتان مازالتا تحتفظان بالعديد من الخانات والقيساريات.
وتحدثنا كتب التاريخ والرحلات عن هذه المنشآت بالتفصيل وعن ظروف بنائها ووظائفها وأقسامها المعمارية ونشاطاتها التي حفلت بها في كل عهد.
ولئن اندثر بعض هذه المؤسسات أو بطلت وظيفته، فإن عدداً هاماً ما زال قائماً، بعضها بحالة جيدة من الناحية المعمارية، والبعض يستخدم في الأغراض التجارية والصناعية التقليدية، وبعضها عاد سيرته الأولى، فتحول إلى مقر للقنصليات والسفارات الأجنبية، بعد أن كان مقراً للجاليات الأجنبية.
أولاً: أهمية بلاد الشام والمنطقة العربية في التجارة العالمية:
لا شك أن المنطقة العربية تتمتع بموقع جغرافي متميز بين القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، ظهرت أهميته الاستراتيجية منذ أقدم العصور، وخوّل هذا الموقع سكان المنطقة ودولها السيطرة على التجارة العالمية، ونقل السلع بين بلدان الشرق والغرب، في البر والبحر.
كما لعب هذا الموقع دوراً هاماً في سيْر أحداث التاريخ العالمي، تأثرت به دول المنطقة والدول المجاورة لها، سلباً وإيجاباً، فجلب لها الخير والشر.
وتناوبت دول المنطقة السيطرة على التجارة العالمية ونقل السلع المحلية والأجنبية في رحلات تجارية منتظمة، عبر طرق ومحطات، توزعت بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب.
وتمكن تجار اليمن منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولاسيما في عهد دولتي سبأ ومعين من السيطرة على طرق التجارة، بين جنوب المنطقة العربية وشمالها، وعلى طريق التجارة البحري، لنقل السلع من الصين والهند وفارس.
ثم نشطت شعوب الأنباط والتدامرة والمناذرة والغساسنة وأهل الحيرة والحضر، في السيطرة على النشاط التجاري بين بلدان المنطقة (الشام والعراق ومصر وجزيرة العرب) وبعض جزر اليونان، وبين الشرق الأقصى، كالهند والصين وفارس.
* النشاط التجاري من بلاد الشام إلى جزر اليونان:
ومما يدعو للإعجاب أن يحقق شعب تدمر القاطن في بادية الشام تفوقاً في النشاط التجاري، خلال القرون الأولى للميلاد، ولاسيما بعد سقوط دولة الأنباط ووصلت قوافل التدامرة إلى موانئ الخليج لتجلب بضائع الهند إلى بلاد الشام متنقلة بعد ذلك من (دورا أوربوس) على الفرات فإلى أنطاكية على البحر المتوسط، حيث تنتقل السلع من الموانئ السورية إلى جزر اليونان موانئ الإمبراطورية الرومانية، وتجوب قوافل أخرى الطرق الممتدة بين تدمر والبحر الأحمر ومصر واليمن مارة بالبتراء (سلع).
وينتقل النشاط التجاري بعد سقوط تدمر إلى المحطات العربية الأخرى في أطراف العراق، كالحيرة والحضر، طوال عهد الدولة البيزنطية، مستفيدة من الصراع الدائر بينها وبين دولة الفرس، ويستمر ذلك حتى الفتح الإسلامي، وتشير المصادر إلى ما حصل عليه أهل الحيرة من الثراء جراء النشاط التجاري الذي انعكس على حياتهم، فسادها الترف والتأنق الحضاري، كما عبّر عنه الرواة والشعراء.
أما الحجاز فكان له الصدارة في التجارة مع بلاد الشام قبل الإسلام، وكان لقريش، بالاتفاق مع الحكام البيزنطيين، أن تنزل قوافلها في مدن بصرى والقدس وغزة، وغدت بصرى الشام سوقاً مفتوحة لتجار قريش، وكان في إحدى قوافلها إلى بصرى الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم، قبل النبوة.
ويتحول سكان المنطقة، بعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب وانتشاره، إلى أمة واحدة، تحكمها دولة واحدة قوية عاصمتها دمشق، وتمتد حدودها إلى الهند والصين شرقاً، وإلى إسبانيا والأطلسي غرباً، وتسيطر كذلك على البحار الهامة (الأبيض والأسود والأحمر والمحيط الهندي)، وعلى جزر عديدة، كصقلّيا وقبرص ورودوس وغيرها، وكان طبيعياً أن تصبح السيادة على التجارة العالمية لشعوب هذه المنطقة بما لديها من تقاليد موروثة، ومهارات وخبرات عريقة.
وهكذا أصبحت المنطقة العربية خلال عهود طويلة أكثر أهمية ونفوذاً عن ذي قبل في ميدان التجارة العالمية.
وبالرغم مما أصاب العالم الإسلامي من تمزق وتجزؤ من الناحية السياسية، فإن شعوبه ظلت متواصلة متعاونة في النواحي الأخرى، ولاسيما منها التجارية والاقتصادية، وظلت الأسواق هنا وهناك عامرة بسلع الشرق والغرب.
وغصت المدن الكبرى والطرق الرئيسة بالمؤسسات الاقتصادية المختلفة، وبمحطات القوافل، كالفنادق والخانات والقيساريات والوكالات، التي مازال العديد منها باقياً إلى يومنا هذا، وتعتبر شواهد حية على ذلك النشاط المتميز.
وتظل المنطقة العربية في القرون الأخيرة محتفظة بمكانتها التجارية بالرغم من انتقال التفوق والنفوذ إلى الدول الأوروبية، في أعقاب حركة الاستكشاف والاستعمار، والسيطرة بالتالي، على البحار والطرق العالمية، ولكن تبقى الصّلات قائمة بين الجاليات الأوروبية والبيوتات التجارية في العديد من الموانئ والمدن الكبرى في المنطقة العربية.
أشارت المصادر إلى تخصص بعض الخانات والقيساريات بتجار الفرنج، مثال ذلك قيسارية ابن اليافي في دمشق.
وظل العديد من الخانات مقراً لهذه الجاليات حتى نهاية الانتداب الفرنسي، عرفتُ في حلب واحدة تقيم في خان النحاسين وأخرى في خان الجمرك.

 ثانياً: المصطلحات الخاصة بالمنشآت التجارية القديمة ووظائفها
الحديث عن المنشآت القديمة التي لعبت دوراً هاماً في النشاط الاقتصادي المحلي والعالمي، يستوجب التعرف على ما كانت تحمله من مُسميات اختلفت باختلاف الزمان والمكان، وتبعاً للوظيفة التي تشغلها وما يمارس فيها من نشاط.
وتأصلت هذه المُسمّيات كمصطلحات أساسية شاعت على الألسن، وتناقلتها كتب الرحلات والتراجم، وأثبتتها النصوص والوثائق التاريخية، مما سيتوضح لنا من خلال الدراسة التي توصلنا إليها للمصطلحات التالية: السوق – الفندق – الخان – القيسارية – الوكالة.
1- السوق:
السوق كما هو معروف، مصطلح عربي قديم، بل هو أول المؤسسات الاقتصادية التي عرفتها المجتمعات الحضرية، وكان للعرب قبل الإسلام أسواق مشهورة في المدن وخارجها، اشتهر بعضها كمنتديات ثقافية. وقد فسّرت بعض المعاجم هذا المصطلح بالعبارة التالية: سميت السوق سوقاً لأن الناس يقفون فيها على سوقهم وهي كلمة يصح فيها التذكير والتأنيث.
وحصلت الأسواق في مدن بلاد الشام على عناية من حيث العمران والعمارة، وتنوعت وظائفها بحسب السلع أو المهن التي خُصّت بها، وغدا معظمها مسقوف الفناء، وأحسن مثال لهذا النوع من الأسواق نجده في مدينة حلب القديمة التي تغطيها قباب بنيت بالحجر المنحوت، وزودت بفتحات للنور والهواء، وغدت الأسواق في العهد العثماني تضم مؤسسات ضرورية في كل منها، كالخان والمدرسة والمسجد والحمام، وأحسن مثال لمثل هذا النوع من الأسواق نجده في أسواق دمشق: البزورية والخياطين والحميدية.
2- الفندق:
كلمة معرّبة، وهي من أصل لاتيني، أخذها العرب عن الفرنج خلال الحروب الصليبية، لأننا لم نجد لها ذكراً في المراجع السابقة للقرن السادس الهجري (12م)، وقد ورد في الموسوعة الإسلامية أن أصل الكلمة يوناني (باندوخيتو)، ثم انتقلت إلى اللاتينية وأصبحت (فنداجي).
لقد أُطلق الفندق كمصطلح على المباني التجارية المنشأة داخل المدن، وعلى محطات القوافل المقامة على الطرق العامة، وشاع استعماله في بلاد الشام بشكل خاص منذ القرن السادس الهجري (12م) حيث عثر على أقدم استعمال لهذا المصطلح عند المؤرخ ابن عساكر، وذلك خلال حديثه عن الفنادق الموجودة في أيامه بمدينة دمشق، وذكر منها عشرةً، وأضاف إليها المؤرخ أبو شامة اثنين آخرين. (كما عثرنا في النصوص المنقوشة على المباني القديمة خبراً عن اثنين لم يأت ذكرهما عند المؤرخين المذكورين، أحدهما يسمى فندق الحلبيين، ورد ذكره في نص وقفي منقوش على باب الجامع الأموي الشمالي (باب الكلاسة)، مؤرخ في تسع وثلاثين وستمئة (1241م). والثاني ورد ذكره في النص المنقوش على باب جامع التوبة الكائن بمحلة العُقيبة، وهو مؤرخ في عام تسع وأربعين وستمئة (1251)، ويقع الفندق المذكور غربي (دار البطيخ) التي كانت في محطة (تحت القلعة) أسفل سوق ساروجة وتسمى هذه المنطقة اليوم بسوق الهال.
على أن الفندق الوحيد الباقي إلى يومنا هو محطة القوافل الواقعة على الطريق بين دمشق وحمص، قريباً من بلدة القُطيفة، والمعروف باسم خان العروس، على الطريق ذاتها.
لكنّا عثرنا على نص منقوش على الحجر فوق بوابته تمكنا من نشره كاملاً قبل فقده في عام 1973 يسميه فندقاً وينسب بناءه إلى السلطان صلاح الدين، سنة سبع وسبعين وخمسمئة (1181م).
ويضمحل اصطلاح الفندق في العهود اللاحقة، ليظهر في عصرنا كترجمة للمصطلح الأوروبي (أوتيل- Hotel) الذي أطلق على المؤسسات الحديثة المخصصة لنزول السياح والمسافرين.
3- الخان:
وهو مصطلح فارسي معرّب، ويعني القصر أو المنزل الكبير، وأقدم ما عثرنا عليه في النصوص العربية لهذا المصطلح يرجع إلى القرن الثالث الهجري (التاسع ميلادي)، وذلك عند البلاذري المؤرخ، حين تحدث عن أحد الثغور الشامية القريبة من أنطاكية، قال: «وكانت منازلها كالخانات». ولعله قصد بالمنازل ليس المساكن العادية، بل منشآت مخصصة لنزول الغرباء، لأننا عثرنا على ذكر لهذا المصطلح عند مؤرخي القرن السادس الهجري، حيث ذكر القشلاني موقعاً قرب دمشق سماه «منازل العسكر»، وذكر ابن عساكر منازل عديدة في ضواحي دمشق، ويبدو أن المنازل لم تكن منشآت كالخانات والفنادق، بل أماكن مخصصة لنزول الغرباء والقوافل أو معسكرات للجند.
وهناك أبنية في البادية من العهد الروماني يطلق عليها اسم الخانات، كخان الحلابات وخان التراب، لكنّا نرجح أن إطلاق اسم الخان عليها كان في وقت متأخر عن عهد بنائها.
أطلق مصطلح الخان فعلاً منذ العهد الأيوبي على منشآت التجارة والسفر إلى جانب الفندق، وبدأ بالشيوع كمرادف له، ومع أننا لا نجد عند ابن عساكر من القرن السادس الهجري أي ذكر للخانات فإننا نجد المؤرخين الذين أتوا بعده، أخذوا يفضلون كلمة الخان، حتى أن الرحالة ابن جبير الذي زار الشام في العهد الأيوبي، حين مر بفندق صلاح الدين الذي مرّ ذكره، أسماه «خان السلطان».
وما زالت سورية تحتفظ بالعديد من الخانات من مختلف العهود، داخل المدن وعلى الطرقات العامة.
أما من حيث الوظيفة، فإننا نجد الفنادق والخانات مخصصة للأغراض التجارية والسياحية بشكل عام، فهي إما محطات لقوافل التجار والمسافرين والحجاج من الطرق العامة، وإما منازلُ للتجار وأماكن لبيع السلع داخل المدن ويبدو أن معظم الخانات، ولا سيما في العهود الأخيرة، كان كل منها مخصصاً لسلعة معينة أو مهنة من المهن والصناعات، كما يظهر من الأسماء التي أُعطيت لها، أو ما ذكرته المصادر التاريخية عن نشاطاتها.
ونذكر فيما يلي ما عثرنا عليه من أسماء السلع والمهن التي اقترنت بعدد من الفنادق والخانات، وقد بلغت ثلاثين سلعة ومهنة أطلقت على مجموعة من الخانات: خان الملح – الطحين – الزيت – الرز – البيض – العنب – اللبن – البرغل – الصنوبر – الصابون – الحرير – الحِنّاء – الخشب – التتن (التبغ) – القطن – الجوار والرقيق – الجمرك – الزعفرنجية – الخضيرية – الدقاقين – الخياطين – النحاسين – الماردانية – النسيج – الفتالين – الجوخية – الألاجة (نوع من النسيج) – العلبية – الدواليب (للف الخيوط) – الفرايين (بائعي الفراء).
4- القيسارية:
تُجمع على قيساريات وهي معربة عن الكلمة اللاتينية (Caesarum) وتعني في الأصل البناء الملكي أو الامبراطوري، اشتقت من كلمة Caesar (قيصر) لقب أباطرة الرومان.
شاع هذا الاصطلاح في العهد العربي الإسلامي، وأطلق على المباني ذات الوظيفة الاقتصادية المخصصة للمهن والحرف، وأحياناً لسلعة من السلع.
وبعضها لنزول التجار، أو لسكن الجاليات الأجنبية، ويختلط الأمر في القرون الأخيرة فينتفي التمييز بين القيسارية والخان.
ونذكر هنا ما عثرنا عليه من الوظائف التي اقترنت بأسماء القيساريات، وهو: قيسارية الصباغ – القواسين (صانعي أقواس الرماة) – السلاح – مسبك الفولاذ – القطن – البهار – نسج الحرير.
وأقدم استخدام لهذا المصطلح عثرنا عليه، يرجع إلى العهد الفاطمي، حيث ذكر المؤرخ ابن عساكر خبراً عن القيسارية الفخرية، ونسبها المؤرخ ابن تغري بردي إلى الشريف فخر الدين، متولي القضاء في دمشق في أيام الظاهر العبيدية، المتوفى عام 434 للهجرة.
5- الوكالة:
شاع هذا المصطلح العربي في مصر بشكل خاص، منذ العهد المملوكي، وأطلق على المؤسسات ذات الصفة التجارية والمهنية كمرادف للخان والقيسارية، ولم نعثر على استعمال له في سورية والبلاد الشامية الأخرى إلا أننا وجدنا عبارة «دار الوكالة» عند المؤرخ ابن عساكر، دون إيضاح لوظيفة هذه الدار التي تبدو كإحدى المؤسسات العامة وكانت في دمشق على أيامه، أي في القرن السادس الهجري لكن المحبي في كتابه «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» يذكر وكالة من العهد العثماني في دمشق ويشرح لنا معناها، شعوراً منه بأنها اسم غريب وغير شائع فيقول: «والوكالة اسم للخان في عرف المصريين، والدمشقيون يسمونها قيسارية». وتعتبر وكالة الغوري في القاهرة اليوم أشهر الوكالات المعروفة وهي من العهد المملوكي، تنسب للسلطان قانصوه الغوري، شيّدت حوالي عام 910هـ (1505م)، وتشبه هندستها الخانات والقيساريات، لكنها مؤلفة من خمسة طوابق، بدلاً من طابقين.
ثالثاً: الخطوط العامة للهندسة والفن المعماري في العمائر الاقتصادية القديمة:
من السهل التعرف على هندسة هذه المنشآت وتصميمها المعماري وعناصرها الفنية التي تمثل العصر الذي أنشئت فيه، فما يزال العديد منها باقياً بحالة جيدة، شواهد حية أمام أعيننا، لاسيما تلك التي شيّدت في العهد العثماني، والذي بلغت فيه قمة تطورها، فالخانات المقامة على الطرق العامة كمحطات للقوافل، كانت ذات طابق واحد مؤلف من فناء حوله قاعات واسعة، ومسجد أحياناً، بينما جُعلت الخانات والقيساريات المقامة داخل المدن من طابقين، وتتكون من فناء سماوي جُعل في معظم خانات العهد العثماني مغطى بسقف من القباب، ويتوسط الفناء بركة ماء، ويحيط به مستودعات وإسطبلات في الطابق الأرضي، بينما الطابق العلوي مؤلف من مجموعة من الغرف مفتوحة على رواق مشرف على الفناء، وهي مخصصة لنزول المسافرين ومكاتب للتجار، وقد يتوسط المسجد أو يقام في ركن من أركان الطابق الأرضي. وتزودنا المصادر وكتب الرحلات بوصف لما اندثر من هذه المنشآت، ولاسيما منها القيساريات التي لم يبق منها سوى النذر اليسير.
وصف المؤرخ ابن كثير قيسارية يلبغا في دمشق المشيدة في العهد المملوكي عام (747هـ/1346م) بقوله: «إن داخلها قيسارية تجارية، في وسطها بركة ومسجد، وظاهرها دكاكين، وأعاليها بيوت للسكن».
ونجد وصفاً مفصلاً لقيسارية أخرى زائلة هي قيسارية الأمير قجماس الإسماقي نائب السلطنة في دمشق، وفي وقفية مخطوطة، ورد فيها ما يلي: «يُغلق عليها باب خاص مبني بالحجارة المنحوتة في جدارها القبلي، يُتوصل منه إلى دُركاه (دهليز) مسقوفة، يُستطرق منها إلى ساحة سماوية مبنية جُدُرُها بالحجارة المنحوتة، وبها بركة ماء يجري إليها الماء من نهر القنوات، وتشتمل على ثماني قاعات معدة لنسيج الحرير، لكل منها باب خاص، وشباك مطل على الساحة المذكورة ولكل منها منافع ومرافق».
ويحسن أن ننهي هذه الفقرة بإيراد ما سجله الرحالة الأجانب في القرون الماضية من وصف لبعض الخانات وما تركته في نفوسهم من انطباعات.
لقد وصف الرحالة الفرنسي Darvieux الذي زار دمشق عام 1660م خاناتها بقوله: «إنها مبنية بناءً متقناً، توجد في الطابق الأرضي المخازن، وفي العلوي أروقة تؤدي إلى الغرف، حيث لكل منها قبة مصفحة بالرصاص».
ووصف الشاعر الفرنسي المشهور (لامارتين) الذي زار دمشق في عام 1833 خان أسعد باشا العظم بأن غرف التجار كانت في الطابق العلوي، وأن التاجر المرموق كان يستأجر غرفة ليضع فيها بضاعته الثمينة، ونعتقد أنه يقصد بذلك التجار الأجانب، ويضيف قوله: وكان في جانب الخان اسطبل لخيل المسافرين والقوافل: وأبدى لامارتين هذا دهشته العظيمة حين وقف يتأمل بوابة الخان الرائعة البنيان، فوصفها بقوله: إنها قطعة من العمارة الإسلامية لا نظير لها في العالم، ثم سجل الشهادة الهامة التالية: «إن شعباً فيه مهندسون لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا البناء، وعمالٌ قادرون على تنفيذه لجدير بالحياة والسعادة».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق