الأحد، 24 يوليو 2011

اسحق قومي طائر مهاجر من الشمال السوري

عكفت أبحث عن ذلك المكان الذي أعطى الوطن سورية حفنة أبناء متميزين؛غادروه، إلا أنهم حملوا اسمه معهم بعيداً في أنحاء متفرقة من المعمورة؛ ومع أنني بحثت عن عين المكان، إلا أنني وجدت اسمه ضمن ثلة من تلال أثرية تحيط به إحاطة الكواكب بالشمس، إنه قرية تل جميلو، وعلى ذلك أصبحت  مهمتي اقتفاء تاريخ شمال سوية ليستقربي القرار عند كتب كثيرة تحدثت مادتها الرئيسة عن عدد من أبناء هجروا مناطقهم النائية البعيدة لتبرز مواهبهم في أماكن أخرى، ليتركوا بصمتهم في ميادين الحياة المختلفة، نعم؛ هم كثر شاءت أقدارهم أن يغادوا حاملين معهم سمة مناطقهم بالإضافة إلى معارف اقتنصوها في أوطانهم وعملوا على تطويرها في أماكن استقرارهم حيث عرفوا من خلال إبداعهم.
  من هؤلاء وجه عرفناه من خلال خلق  وأدب رفيع أمتاز بهما، إنه الأديب الشاعر إسحق قومي.
  هو من مواليد قرية تل جميلو التابعة لمحافظة الحسكة السورية،  أبصر النور 1949م تابع تلقي علومه في سورية، ليحصل على الليسانس من قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية من جامعة دمشق.

امتهن التعليم فتألق فيها وتدرج حيث علمَّ أجيال من مختلف المراحل الابتدائية، الإعدادية، الثانوية, ومعاهد الصف الخاص دفعه شغفه بالتعليم ليرتقي كمدرس لمدرسي التربية العامة وعلم النفس ونائبا لمدير معهد إعداد المدرسين وفيما بعدرئيسا للدروس المسلكية لعام 1988م.
  دفعته طموحاته ليغادر موطنه في أيلول عام 1988م قاصداً للولايات المتحدة الأمريكية مهاجراً.

وعندما استقر به الحال في ,ولاية نيوجرسي، استعان على غربته بمزاولة أعمال حرة. إلا أنه لم ينس هوايته الأدب ليعمل بكثير جهد على تحريرالصفحة الثقافية في صحيفة الاعتدال ويشارك في تحرير صحيفة الهدى اللبنانية .
   كذلك كان أحد أعضاء أسرة البرنامج الإذاعي (القافلة كروان) في "ساوث أورنج" لمدة ثلاث سنوات، وخلال ذلك بدأت عروض العمل تنهال، منها عرض للعمل في إذاعة صوت أميركا -القسم العربي –

 إلا أن حنينه للأدب كان دائم التردد على النفس، ليدفعه للمشاركة بمسابقة للشعر باللغة الإنكليزية. بقصيدة "أي ول ستل سنك" في مسابقة "ترجرد بويمس أوف أميركا" عام 1991م.
  ولأسباب كثيرة كان فكره الأدبي يقض مضجعه، فتناوب في أعمال كثيرة، ليقدم نهاية عروض لمطربي الشرق، فقدم لأكثر من مطرب ومطربة على مسارح الغناء في نيوجرسي أهمهم المطربة دلال الشمالي. إلا أنه لم يجد ذاته في ي منها.
ودائماً تهجر الطيور أعشاشها، وكذلك هجر الأديب قومي تلك البلاد البعيدة، لتحط به الرحال في أوروبة القريبة من الوطن، ليصل ألمانيا عام 1991م التي أحبها ولا يزال يقطنها حتى اليوم.

كان القلم رفيق رحلاته، القلم الذي لم يخذله يوماً، وعليه نشرت كتاباته الشعرية والروائية والقصصية الصحف التي تنشر بالعربية كالتقدم شوشوطو، وآرام وبهرو سريويو، وفرقونو , ومجلة شورايا(البداية) ومجلة المستقبل وبنيونو الكندية.ودروب ووتركيت(بوابة نركال).
  ومع أنه بعيد إلا أن منتديات العالم بأثره كانت مربط فرسه فشارك كعضو فاعل في كثير منها كالمربد وصخب أنثى، ومنتديات النيل والفرات وأنكيدو.وإنانا..وأصوات الشمال. وتجمع شعراء المغرب؛ والموقد والسرياني الحر والمحطة وموقع بانياس الساحل وموقع النور والنوراني والرئيسية وصوت العروبة والحوار المتمدن وموقع معكم ومنتديات نبض القوافي ومنتديات نشيج المحابر الأدبية وموقع أولف السرياني والمثقف وعين كاوا والتجديد العربي والبيت العراقي وبابل الفضاء الثقافي. ومنتدى بحزاني ومنتديات صبايا وشباب بانياس الساحل والعرب اليوم والخابور وهلمون نيت وغيرها.

 كذلك أعاد عهده وجدده مع صحف كثيرة منها مجلة أدبيات؛ والجذور الثقافية وقنشرين ومجلة فوانيس وعراق الكلمة ومملكة الأحلام.
   ليعود منذ سبعينات القرن الماضي ويشارك بكتاباته في الصحف السورية: كالطليعة, البعث, والثورة وتشرين ومجلة المعلمين.والطلبة والمسيرة، والطفل العربي .بالإضافة إلى  مشاركات شعرية في أكثر من عشرين برنامجاً إذاعياً للشبيبة والطلبة . و أمسيات تلفزيونية في برنامج قناة 99.  وكانت له ظهورات تلفزيونية عدة في زاوية شعر.

 طُبعت أول مجموعة شعرية له عام 1983م بعنوان: الجراح التي صارت مرايا. تبعتها في عام 1984م بمجموعة للأطفال بعنوان أغنيات لبراعم النصر. وله من المجموعات الشعرية التالية: - مواويل في سجون الحرية - العاشقة القديمة منى - قمر ياقمر - نُغني للبشرْ (للأطفال) - مواسم الحصادْ - الشاعر والمقصلة - نبوءات العهد البابلي - أناشيد لآلهة الخابور القديمة - زورق على نهر الراين - لماذا بكت عيناك؟ - عبد الأحد قومي شراعُ في مدى القصيدة. - الموت في المنافي البعيدة. وفي الشعر باللغة الإنكليزية والألمانية ديوان بعنوان( أي ول ستل سنك) أنا سوف أبقى أُغني.

 أحب الطفولة فقدم مجموعة أعمال قصصية للأطفال بعنوان ( الأزهار تضحك مرتين). ليتبعها بمخطوطات روائية أهمها ( دموع تأكل بقايا صمت, عاشق أُختي، المسافر إلى الفراغ، كان اسمها سونا، في الطريق إلى الزللو، المستحيل كان جنونا، جلجامش يعود ثانية، المحطة، أنا وأهلي على ضفة الهاوية) وفي البحث التاريخي له عدة كتب منجزة (القصور والقصوارنة وقبائل الجزيرة السورية وابتهالات لمن خلق الوجود).
  ليظل في جعبته كتب يعمل على إعدادها للطبع وهي: مئة عام على بناء مدينة الحسكة. والمسيحيون في الجزيرة السورية. أعلام الأمة السريانية الأشورية الكلدانية. تاريخ الحركة الشعرية في الجزيرة السورية.
   ومن أهم دواوينه الشعرية تلك التي كانت بدايات لتجربته- حُرق بعضها وبعضها نجى من الحريق؛ فاديا - البنفسج المبلل بالدموع - ابتسامات الأمس الساخرة - ليس عندي قمر.

وفيما بعد تعدى اهتمامه الثقافي الكتابة ويواكب ركب الحضارة من خلال موقعه الشخصي، الذي اتسم بسمة الثقافة والأدب ليظهر إلى الوجود من خلال موقع اللوتس المهاجر، الذي بدء البث الثقافي ليكون الثاني بعدَ المنتدى الأول (مملكة الحبّ والنهار) الذي أنشأهُ عام 2008م.

واليوم أكتب أنا من دمشق؛ أكتب عن علم من أعلام بلادي الكثيرة . بكل افتخار عن الأديب الشاعر والمعلم إسحق قومي.


الأربعاء، 20 يوليو 2011

النضال كلمة عالية التقنيات- إلا أن ثريا الحافظ استطاعت أن تحصل على اللقب


ثريا الحافظ

 ممثلة جيل ولد في قلب دمشق..ونذر نفسه للوطن والعروبة، كانت من أبرز نساء جيلها مع ألفة عمر باشا الإدلبي، وجيهان موصلي،  اللواتي قارعن الاستعمار وساهمن مع غيرهن على خلفية نضال المجاهدين في صنع علائم النصر وإخراج المستعمر من أرض سورية، شجعها على ذلك المناخ النضالي المفعم، وزوجها المجاهد منير الريس صاحب (الكتاب الذهبي) والقلم الجريء، الذي آزرها وشد من عضدها، مما مكنها من تأسيس العديد من الجمعيات والمنتديات، وعلى رأسها منتدى سكينة الأدبي، الذي نثرت من على منبره بذور المعرفة، وحاضر فيه كبار مثقفي ومفكري الوطن العربي وهي تقف صامدة لا مبالية، كانت ثريا تساعد الناس وتشعر بهم، وهم بالتالي يشعرون بها أثناء الحاجة، قدّرها الجميع واحترمها، عملت جاهدة للحفاظ على حقوق مواطنيها من خلال نشر بذور الفكر الواعي الحر، حين قالت لم ندخر جهداً أنا ومثيلاتي من المناضلات لإيصال ما نريده إلى أكبر عدد ممكن من النساء فمن أحاديث في الإذاعة إلى محاضرات في الأندية، إلى توجيهات من خلال الجمعيات المؤسسة آنذاك: جمعية نقطة الحليب، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمات، دوحة الأدب، جامعة نساء العرب القوميات، الرابطة الثقافية النسائية، منتدى سكينة الأدبي، النادي الأدبي النسائي، ومن خلال الاتصال المباشر بالنساء عن طريق المقاومة الشعبية للمرأة عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر) إضافة إلى تمريض جرحى المظاهرات ضد المستعمر الفرنسي، ومواساة أسر الشهداء، ورعاية أطفالهم مادياً ومعنوياً، وقد افتتحت جمعيات خريجات دور المعلمات حينها ميتماً تحت اسم (دار كفالة الفتاة) ابتدأ بعشرين يتيمة وانتهى بحوالي أربعمائة، يقدم لهن التعليم والرعاية حتى يكبرن ويعتمدن على أنفسهن، كذلك توجيه النساء لممارسة حقهن المشروع في ممارسة حق الانتخاب، ثم حق الترشيح، وقيامها فيما بعد مع بعض رفيقات دربها النضالي بتأسيس جمعية رعاية الجندي عام 1956، ليقمن بعدة زيارات للجنود في مواقعهم، وتقديم الهدايا لهم، تاهيك عن حفلات الترفيه، وزيارة المرضى من المجندين في المستشفيات لتقديم المواساة.

وحول التوعية العملية التي كانت تفاخر بها باستمرار، قيامها على رأس مئة سيدة برفع النقاب عن وجوههن في مظاهرة تحررية ، كانت أول امرأة سورية رشحت نفسها لانتخابات عامة، وأول من حملت بندقية ورشاشاً في المقاومة الشعبية.

أقامت عام 1946 صالونها الأدبي (حلقة الزهراء الأدبية) الذي أقيم في منزل زهراء العابد زوجة رئيس الجمهورية آنئذ، لصغر مساحة منزلها، لا يتسع لإقامة مثل هذا النوع من الصالونات الثقافية.

وعليه إذا ذكرنا تاريخ النضال النسوي والكفاح المرير بعد العهد العثماني لرأيناها المناضلة الجريئة الأولى.. فهي بطلة المظاهرات وخطيبة الجماهير في ساحات الثورات، وهي التي لا يعرف الخوف إلى قلبها سبيلا ، أحبت لغتها، وعشقت قوميتها، وسارت في خدمة أمتها في مختلف المجالات، وكان في أحاديثها صراحة وجرأة.. إن من يقرأ كتاببها (حدث ذات يوم) و (الحافظيات) يطلع على نضال المرأة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وعلى كفاح الفتيات اليافعات ضد الطغيان، ويعرف أن الأمة التي أنجبت خولة بنت الأزور، وأسماء.. أنها أنجبت أيضاً نساء في قلب دمشق نذرن نفوسهن لخدمة العروبة. أنها تعكس لك الأحداث كشريط ينساب أمامك بعفوية صاحبتها، بإخلاصها لأفكارها الاجتماعية والسياسية، بتمسكها بقيمها ومعتقداتها وصفاء نفسيتها، إنها أم جيل عشق الحرية والنضال.

استقلت سورية في 17 نيسان 1946، وشاركت النساء في احتفالات الجلاء التي أقيمت كل عام في ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي، هذا الإنجاز التاريخي جاء نتيجة حتمية للنضال المتفاني السياسي والجماهيري السلمي والمسلّح الذي خاضته فئات شعبنا كلها على امتداد ربع قرن، والذي جسّد إرادة شعب وقضية وطن، عبّر فيها الشعب السوري عن عمق الانتماء لوطنه، والإيمان بالحرية والعدالة، وكانت الوحدة الوطنية التي تجلت بكل معانيها عاملاً أساسياً في تحقيق النصر, ولا يستطيع احد نكران الدور الهام والبطولي الذي قامت به المرأة السورية في مقارعة الاستعمار,  وذلك من خلال العديد من الأسماء النسائية كنازك العابد, و زينب الغزاوي, رشيدة الزيبق, سارة المؤيد العظم، ومنيرة المحايري، وثريا الحافظ، ويسرى ظبيان، وزهيرة العابد، وسنية الأيوبي، وجيهان موصللي، وبلقيس كردعلي, والشهيدة سلمى بنت محمد ديب قرقورة وغيرهن كثيرات.

وأخيراً أدى شعور المواطنة لدى النساء السوريات إلى تجاوز العادات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك, للوصول إلى حق مشروع،  هو  مشاركة المرأة الرجل في حق حماية وصون الوطن ، وصولا لنيل الحرية والاستقلال. 





الثلاثاء، 12 يوليو 2011


وقف محطة الحجاز

عُرفت الأوقاف أو الأحباس منذ دخول الرسول الكريم المدينة المنورة، لتسود في كل أمصار الإسلام كونها عاملاً مهماً من  عوامل الرُقي والتقدم الحضاري الإسلامي، حيث شملت الأوقاف المجالات كافة سواء الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصحية والعسكرية.

والوقف: (( The  Trust )) يعني ما قاله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (( احبس أصلها وسبل ثمرتها )) أي عدم التصرف في الأصل الموقوف، والتصرف، في عوائده واستثماراته في مجالات البر والإحسان، وعليه اعتبرتْ لأموالِ الأوقاف حُرْمةٌ مستمدةٌ من الجهةِ الموقوفِ عليها، فما كان حقاً لأشخاص موقوف عليهم، فحرمته حرمةُ مالِ الغير وحقوقه، وما كان لمصالح دينية أو عامة أخرى، فحرمته حرمةُ حقوقِ الله تعالى والأموال العامة التي تتعلق بها حقوقُ الجماعة.

الجانب التاريخي لنظام الوقف، أديرت الأوقاف سابقاً من قبل النظّار والمتولين الذي يعينهم الواقفون، وكان القضاة يحكمون وفق المذاهب التي ينتمون إليها، وحصر القضاء الأوقاف في الفترة العثمانية بالمذهب الحنفي فقط، مما سبب توسّع الفروع الفقهية المتعلقة بالوقف في هذا المذهب، مع تطوّر المعاملات، وقد صدر قانون نظام إدارة الأوقاف في العهد العثماني بتاريخ: 19 جمادى الآخرة سنة 1280 هـ، ثم صدر قانون انتقال المسقفات والمستغلات ذات الإجارتين إلى الورثة سنة 1294 هـ، وفيه تم تنظيم حق انتقال حقوق القرار إلى الورثة، ثم صدر نظام توجيه الجهات 1912 م، وقد نظم كيفية التوجيه والانتقال.
حرصت الأمم الاستعمارية على إضعاف الأوقاف الإسلامية، لأهميتها في حياة الأمة، وقد ذكر العلامة الكوثري: أن بعض سفراء فرنسا لدى الدولة العثمانية ألف كتاباً في تاريخ الإصلاحات العثمانية يحتوي وثائق سرية، واقترح على الدولة العلية إلغاء الوقف، وجعل الأراضي الموقوفة في عداد أملاك الدولة، وبعد الاحتلال الفرنسي لسورية شكل مجلس أعلى للأوقاف، وسعت دولة الاحتلال للهيمنة على وارداتها والحد من نشاطها، فأحدثت ما أسمته (مراقبة الأوقاف) وهي دائرة ملحقة بالمندوب السامي الفرنسي مباشرة، وكان مقرها بيروت، ومهمتها التدخل في شؤون جميع الأوقاف الإسلامية، والاستيلاء على بعضها، ومنها أوقاف الخط الحديدي الحجازي، وبعض الأوقاف العظيمة كأوقاف السلطان سليم والسلطان سليمان وغيرها، حيث وصلت نسبة ما يقتطع من واردات الأوقاف إلى المالية العامّية تحت نير الاحتلال إلى 45 %، وفيما بعد صدر القانون رقم (80) عام 1926 م عن المفوّض السامي الفرنسي بفتح باب الاستبدال في العقارات الوقفية على مصراعيه، وقد أجازت مادته الأولى استبدال جميع العقارات الوقفية، ما عدا الجوامع، وجاء في المادة الثانية منه جواز الاستبدال بالنقد أو بملك آخر معادل بالقيمة ،ثم أتبع القانون المذكور بالقرار رقم (156) الصادر عام 1931 لتنظيم استبدال العقارات الوقفية،  ليصدر بعد الاستقلال المرسومين التشريعيين (76) بتاريخ 16/5/ 1949و(128) 11/6/1949،  بإلغاء الأوقاف الذَّريّة والمشتركة وتصفيتها، وإلغاء التولية على الأوقاف من قبل النظار والمتولين الخاصين، وحصرت التولية بمديريات الأوقاف.

وعليه أخذت العقارات الوقفية في التقلص وبخاصة العقارات التي تدر الواردات كالأراضي والمجال التجارية، بينما ازدادت العقارات المستهلكة وبخاصة المساجد.

 واليوم عزف عن الوقف لانعدام الثقة بالقوانين الناظمة لشؤونه، والطريقة التنفيذية السيئة التي يعمل بها، والأشخاص القائمين عليها، بعد أن تحولت المعاهد العلمية العظيمة إلى أسواق يرتادها من هب ودب( كوقف المدرسة الأمينية) بسوق الحرير التي تعد أقدم مدرسة باقية بدمشق إلى الآن، و( مدرسة عبد الله باشا العظم) موئل النهضة العلمية الإسلامية الحديثة بدمشق.

واليوم  يتعرض وقف محطة الحجاز وهو وقف عثماني، خاص بالسكة الحديدية الحجازية، ومحطة الحجاز، إلى انتهاك سافر، بتوظيفه، بصفة أسواق تجارية( مولات) .
لمحة عن تأريخ محطات الخطوط الحديدية في دمشق:

 لم تعرف الولايات العثمانية الخطوط الحديدية قبل زيارة السلطان عبد العزيز مصر أواخر آذار 1863 في ولاية الخديوي إسماعيل باشا الذي استخدم الخطوط الحديدية المصرية في تنقلات السلطان أثناء زيارته، وفيما بعد بدأت الحكومة العثمانية تعتمد الخطوط الحديدية كوسيلة مهمة في النقل، فأنشأت شبكة من الخطوط الحديدية برعاية ألمانية، ويعد خط حديد يافا القدس المنفذ عام 1888 بطول 87 كم أول خط حديدي نفذ في بلاد الشام، تلاه خط دمشق مزيريب عام1890 وخط دمشق بيروت1891 بإشراف فرنسي، لتكون محطة الميدان (محطة دمشق) أولى المحطات أهمية، بعد أن انتهى بناؤها عام1894 كنقطة انطلاق خط دمشق بيروت، ودمشق مزيريب، احتوت محطة الميدان عدة خطوط لخدمة حركة المسافرين وحركة الشحن، كما زودت بورشات للصيانة وخزانات التزود بالمياه والفحم، وصمم بناء المحطة للمسافرين والإدارة معاً، وهكذا عدت محطة الميدان مركز انطلاق للقطار المتجه من دمشق إلى بيروت، إلا أن التجمع الفعلي للركاب فيما بعد كان في محطة البرامكة، التي أنشأت عام 1895 في الجهة الغربية من دمشق، لكونها محطة رئيسة كبيرة، احتوت بيوتاً للإيجار ومستودعات لمعدات الخطوط وساحتين كبيرتين بجانب كل منها رصيف طويل لشحن وتفريغ البضائع، وتألف بناء المسافرين من طابق واحد، مطل على ساحة المحطة.
ومع ظهور فكرة الخط الحديدي الحجازي، بات ضرورياً بناء محطة رئيسة لتحمل عبء التطور الحاصل في مجال النقل السككي في بلاد الشام قاطبة، ونظراً إلى أهمية المشروع بالنسبة للسلطان عبد الحميد الثاني، بدأ العمل في الخط في شهر أيلول سنة 1900م، فاختير مسار قوافل الحج، وفيما بعد عيّن المهندس الألماني مايسنر
Misner للإشراف على تنفيذ المشروع بمساعدة نحو 50 مهندساً من جنسيات مختلفة، وتورد المصادر أن العمل كان شاقاً ومرهقاً، نتيجة الظروف الجوية القاسية، وندرة المياه، والوقود، وتراكم الرمال في المناطق الصحراوية، وقلة المواد الغذائية، وقلة الأيدي العاملة؛ ما دفع بالسلطات العثمانية إلى الاستعانة بالجيش لتوفير اليد العاملة في تنفيذ المشروع، فكانت أغلبية العمال جنوداً من اللواء السادس في بغداد واللواء الخامس في الشام، وجنوداً من البحرية العثمانية ليصل إلى 5650 عاملاً، ليرتفع العدد عام 1904 إلى 7585 عاملاً عسكرياً، وعليه تجاورت قبور الشهداء الذين قضوا أثناء العمل؛ جنباً إلى جنب مع محطات القطار؛ التي مازال بعضاً موجوداً إلى اليوم، إلا أن قبور معظم أولئك البواسل وأسماءهم قد طوتها صفحة النسيان ولم يعد لها وجود، وفي هذا المجال لا بد للبحث من ذكر جهود الوالي المصلح حسين ناظم باشا) من أشهر الولاة العثمانيين على دمشق، عين ناظراً لشؤون الأمن العام في عاصمة الدولة العثمانية اسطنبول، ثم ولاه السلطان العثماني ولاية دمشق، حيث تولاها ثلاث مرات أولها عام 1895م، والثانية عام 1909 والثالثة عام 1911، من أفضل الولاة الذين تولوا الحكم في سورية نظراً لما له من أياد بيضاء في مجال الإعمار والتنظيم الإداري وإنشاء المشاريع المفيدة للبلاد، وله فيها إنجازات عديدة منها جر مياه عين الفيجة إلى دمشق)

كونه صاحب الفضل في إنجاز أهم منجزات الخط التي تحققت في دمشق، وفي مقدمتها محطة الحجاز «أو محطة القنوات»التي أعدت لركاب قطارات الخط الحديدي الحجازي، وذلك عندما استطاع الاقتصاد في أجور العمال، باستدعاء المواطنين المكلفين الخدمة الإلزامية للعمل، بإنشاء أبنية مهمة زادت من تطور المدينة، ووسعت خدماتها، مستفيداً من الخبرات المختلفة المشرفة على المشروع، من أبرز هذه الأبنية بناء محطة الحجاز التي صممها وأشرف على تنفيذها المهندس المعماري الإسباني فيرناندو دي أراندا غونزاليس Fernando de Aranda  الذي (وصل إلى دمشق 1902ومكث فيها يشتمّ عبق الحضارة من حاراتها، تزوج من بناتها، وساعد على رسم حضارتها، فشيد فيها روائع البيوت والقصور، وحين جاءه الأجلُ في شهر كانون الأول عام 1969م صلى أهل دمشق على فرناندو في جامع المرابط وضمته مقبرة الباب الصغير في دمشق بين ذراعيها)، وكان المعماري الألماني مايسنر Misner رئيس المهندسين قد أوكل إلى دي أراندا إنجاز هذا المشروع.

وفيما بعد أصبح مبنى المحطة يشكل معلماً مهماً من معالمِ دمشق، لتميزه بواجهة رائعة، وبموقع يتيح لزائر دمشق مشاهدته من أماكن عدة، رافق هذا الموقع الإستراتيجي، تميز البناء كدرة معمارية فريدة لما فيه من الزخارف المعمارية والأرابيسك لينضم إلى المباني الدمشقية التاريخية القليلة، التي احتوت طرزاً معمارية مختلفة، كالطراز الشرقي العربي بخطوطه الهندسية والطراز الأوروبي المعروف بـ(الروكوكو)، مما جعل بناء المحطة محطاً للزوار والسياح.
يتوضع المبنى على مصطبة لغاية جمالية كلاسيكية، يتألف من طابقين، يدخل إلى الطابق الأول من درجين رئيسيين في الزاويتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية يؤديان إلى بهوين مركزيين ينفتحان على الشرق
والغرب بشرفة كبيرة، ومن البهوين يتفرع ممران ينفتحان على ثلاث غرف وتضاف إليه باقي أجزاء الخدمات، ويؤكد الباحثون أن بناء المحطة تأثر بالعمارة المحلية من خلال الإكساءات الداخلية للبهو المشغول بالخشب العجمي، واستخدام زنبقة دمشقية فوق النوافذ المستطيلة، والمداميك البازلتية السوداء التي ترفع البناء عن الأرض، أما التشكيل والوظيفة والإنشاء فهي مستقاة من نماذج معمارية أوروبية، واستخدم في البناء عدة أنواع من الحجارة والرخام، حيث سيطر الحجر الكلسي الرحيباني على أغلب بناء المبنى، ليشكل بين كل طابق وآخر كورنيشاً جميلاً، واستخدم الحجر البازلتي الأسود لمحيط المبنى من الأسفل، واعتمد على الرخام الأبيض كدرابزون، وأعمدة للشرفة التي تشكل مظلة للمدخل الرئيسي للمحطة، كذلك استخدم الرخام القرميدي للنوافذ ذات الأقواس المدببة، تميز مبنى محطة الحجاز بالأسقفة المغطاة بجملونات مختلفة التصميم، كرباعي، والمائل الذي يتقاطع مع جملون البهو من الجهة الرابعة.
وللمبنى ثلاثة مداخل الأول رئيسي ضخم للركاب يطل على بهو كبير بارتفاع طابقين يطل عليه رواق محلق زين بالزخارف البديعة، يستند إلى جدار جانبي بوساطة دعامات مزخرفة وهناك خمسة أبواب كبيرة تطل على أرصفة القطارات.
و تشغل مبنى المحطة الحالي مكاتب إدارة الخط الحديدي الحجازي، إضافة إلى جعل بهوه الواسع معرضاً دائماً للكتاب.
رمم سقف المبنى التاريخي، ونظفت الواجهات الحجرية وتم تركيب الزجاج المعشق التراثي على النوافذ والأبواب الرئيسية للمحطة بهدف إضافة لمسة جمالية إلى المبنى القديم.
واليوم تعلن وزارة النقل التركية أن تركيا وسورية والأردن والسعودية اتفقت على إعادة إحياء طريق الحج القديم الذي كان يربط قبل نحو 100 عام الحجاز باسطنبول بخط سكة حديد، ليكون جاهزاً للعمل في عام 2012.
حيث ستكون «سكة حديد الحجاز مشروعاً مشتركاً بين الدول الأربع على أن تقوم كل دولة بتأهيل السكك في أراضيها تمهيداً للربط بينها»، «وسيكون الربط ممتداً من مكة المكرمة عبر المدينة المنورة إلى مدينة اسطنبول التركية مروراً بالأردن وسورية»، حيث يخدم طريق الحجاز الجديد ملايين الركاب سنوياً.
موضحاً أن المشروع سيوفر أفضلية جغرافية إذ سيربط أوروبا بشبه الجزيرة العربية عبر شبكة خط سكة حديد متطورة تمتد من تركيا إلى الأردن وسورية جنوباً، وسيختصر المسافة ومدة الرحلة إلى يوم واحد، وسيعتمد المشروع تأهيل البنية التحتية للسكك الحديد في البلدان الأربع وربطها بحيث تكون ملائمة لعمل القطار السريع الذي ينقل الركاب والبضائع.
اعتمد مبنى محطة السكة الحديدية الحجازية في وسائل الإعلام الغربي، كمعلم مهم من معالم سيدة التراث العالمي دمشق، فماذا قدمنا نحن سكان دمشق لهذا المعلم الأثري؟


الاثنين، 11 يوليو 2011

د. ليلى الصباغ - خلقت لكي تكون علماً من أعلام العلم والفكر والأدب

  لطالما قدمت بلاد الشام عبر تاريخها مواطنين أكفاء استطاعوا تبوء مواقعاً بين عمالقة الإبداع، حيث تنوعت خدماتهم التي قدموها للمجتمعات التي أقاموا بين ظهرانيها، سواءاً داخل أوطانهم أو خارج حدودها، بتنوع مجالات اختصاصاتهم.
  ولقد اختيرت الفترة الواقعة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، لتميزها بالعطاء، حيث أنجبت سورية أجيالاً فاخروا بعروبتهم، حملوا هموم الأمة العربية، وتسلحوا بالقلم والبندقية، في سبيل الزود عن أوطانهم والحفاظ على الكرامة العربية، في خضم الأحداث الجسام لتلك الفترة وقفت ثلة من النسوة السوريات إلى جانب الرجل، مناضلات مكافحات في سبيل الاستقلال والحرية والوحدة العربية، وإن أُريدَ التفصيل، فإن البيان يعجز عن ذكر ما تحلت به أجيال هؤلاء من مناقب ومآثر حميدة.
وعلى الرغم من أن الكثر منهم قد غادرونا، إلا أنه مازال بعضاً منهم بيننا يمثل رمز من رموز ماض حي، يحث جيل اليوم على الإصرار لإحياء تاريخ مجيد، والاقتداء بإبداع السلف الصالح.
  في
مقامنا هذا آثرت الكتابة عن مآثر رمز من رموز الإبداع، مازال  عازماً على العطاء، وهنا لامجال للتمييز بين جنسين، فالعلم والفكر والأدب والفن وحتى الحياة الحربية، ليست حكراً على أحدهما.

 
المترجم لها هي زنبقة بلاد الشام، دمشقية أبصرت النور في حي الصالحية عام 1924، عاشت في بيئة محافظة، تحلت بكثير من الخلق والحزم والعزم والاجتهاد وحب المثابرة على البحث والتعلم، مسخرةً جُل حياتها لحبها الأكبر الوطن، من خلال منهج خاص سنته لنفسها لخصته في الثورة على كل ماهو قديم بفكر علمي عملي متحرر، وهنا لايقصد التحرر بمفهومه الحاضر.
  استطاعت في ذلك الزمن الصعب أن تشق طريقها بين بنات جيلها القلائل، متحدية مجتمع له فكره وتقاليده الراسخة، مسخرة إيمانها بالمثل العليا وإرادتها الصلبة، في سبيل ترسيخ منهج فكري تحرري .
هي واحدة من رائدات الفكر والأدب والتربية والتعليم، ناشطة اجتماعية وسياسية، اهتزت طرباً في عيد الجلاء، وهللت للثورة في مصر، كونها وجدت فيها بارقة أمل لتحرر العالم العربي بأجمعه من أنظمة الحكم المستبدة، وأكبرت الوحدة بين مصر وسوريا، إيماناً منها بأن قوة العرب في تماسكهم واتحادهم، فآزرتها قولاً وفعلاً، وبدا تضامنها مع حركات التحرر العربي ضد الاستعمار واضحاً من خلال ماقدمته من مؤلفات وبحوث في تاريخ العرب الحديث والمعاصر.
 

إنها مربية أجيال وأجيال، إنها الدكتورة ليلى الصباغ، مواليد الشام، ترعرعت المترجم لها في أحد أرقى أحياء دمشق، أتمت دراستها الثانوية فيها، عرف عنها الالتزام والجد والتفاني في تحصيل العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها، ونظراً لتفوقها ابتعثت إلى مصر، حيث نالت إجازتها الجامعية من كلية آداب جامعة القاهرة قسم التاريخ عام 1947، لتعود إلى سورية فيما بعد لتعمل في التدريس والإدارة في العديد من المدارس الحكومية عام 1952، دفعها طموحها لمتابعة مسيرتها العلمية، لتحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في تاريخ العرب الحديث عام 1961.
 
تبعت وزارة التربية والتعليم، تولت إدارة مدرسة التجهيز الثانية للبنات بين عامي 1954- 1963 فعملت جاهدة على جعلها إنموذجاً يحتذى لكل المدارس السورية، وذلك من خلال العمل على إدخال نشاطات تربوية جديدة لم تكن موجودة قبلاً.
    ونظراً لكفاءتها شغلت منصب مفتش خبير موجه لمادتي التاريخ والجغرافية في الإدارة المركزية بوزارة المعارف عام 1963، لتنتدب أستاذ زائر في جامعة الجزائر عام 1966، حيث استغلت إقامتها في الجزائر في تحصيل المزيد من المعارف، فكثر نتاجها العلمي ليظهر في الدوريات التعليمية المتخصصة في التاريخ وبخاصة الإسلامي منه.
 عملت بين سنتي 1968-1971 في مديرية البحوث التابعة لوزارة التعليم العالي السورية، إلا أن مهنة التعليم كانت تجري في العروق، فعادت بكل ماتحمل من زخم علمي ومعارف وخبرة اكتسبتها خلال سنين طوال قضتها في البحث العلمي،  للتدريس في جامعة دمشق، وهنا لابد لنا من وقفة، أعطت د. الصباغ أجيال متتالية خلاصة فكرِ جيل الزمن الجميل، لم تكن أستاذ فحسب بل كانت مربية فاضلة، تعلمنا من خلال رعايتها لنا الخلق الحسن، والالتزام والجدية في البحث، والمنهجية العلمية في الكتابة التاريخية، صدقها وتفانيها في إيصال المعلومة لطلابها، أعطاها هيبةَ ووقار العالِم، كنا نهابها ولكن كنا ومازلنا نكن لها في قلوبنا حباً واحتراماً.     
شغلت منصب أستاذ زائر في جامعة العين في الإمارات العربية المتحدة عام 1993، عمدت الدكتورة الصباغ على نشر العلم والمعرفة أينما وُجدت، فكانت مرآة صادقة تعكس صورة ثقافة وفكر المرأة السورية في كل محفل علمي شاركت به.

 تعد الدكتورة الصباغ من رواد الفكر في الوطن العربي،  حيث استطاعت أن تجمع بين الأدب والتاريخ، بمنهجية علمية قل نظيرها، وبجهد مستمر وحتى اليوم مازالت الدكتورة الصباغ تخط بقلمها مخزونً فكري متألق بصياغة أدبية متميزة، تاركةً بصمات واضحة في المجالات التي عايشتها، فكانت أهلاً للتكريم أينما وجدت، وتقديراً لجهودها في مجال التعليم، قامت لجنة الأكاديميين العرب بتكريمها عام 2000  من خلال التصويت لها كعضو في مجمع اللغة العربية في دمشق، خلفاً للطبيب الراحل الرئيس الأسبق للمجمع العلامة أنس سبح( 1900-1986) لتكون العضو النسائي الأول في المجمع منذ تاريخ تأسيسه عام 1922. 
 للمترجم لها العديد من المؤلفات في اختصاصات مختلفة، إلا أنها استطاعت التركيز بصورة  دقيقة على منهجية البحث التاريخي، حيث اعتمد كتابها " دراسة في منهجية البحث التاريخي" كمادة تدرس في جامعة دمشق، كذلك تناولت أبحاثها، الثقافة، المجتمع، السياسة ، لكنها وجهت جل عنايتها من خلال مؤلفات عدة إلى دور المرأة في السياسة والأدب والإصلاح في المجتمع العربي في فترات مختلفة، ولم تكتف بالبحث والتأليف في التاريخ العربي والعثماني، بل تجاوزتهما في مؤلفها تاريخ أوروبة في العصر الحديث، الذي اعتمد تدريسه في جامعة دمشق، لتدعم من خلاله تداخل الحدث التاريخي ونتائجه .  

الأحد، 10 يوليو 2011

الدكتور سهيل بدورة

أعلام من دمشق
 الدكتور سهيل بدورة

ينتمي سهيل بدورة إلى أسرة أعطت مدينة دمشق أبناءاً عرفوا في مجالي الإدارة والعلم.
شغل والده جميل ابن ابراهيم المولود في دمشق عام 1892 منصب رئيس المديرية العامة للديوان السلطاني العثماني، ليتسلم فيما بعد مناصب عدة كان آخرها في إدارة السكة الحديدية الحجازية، وكما ورد في المصدر قطنت العائلة حي القنوات وفيه أبصر المترجم له النور عام 1921 ليتلقى علومه في مدارس دمشق الإبتدائية الحكومية، لينتقل بعدها أسوة بأقرانه إلى المدرسة العازارية ومنها ليتم دراسته الثانوية في معهد اللاييك، لينال شهادة البكالوريا بقسميها العربي والفرنسي، إضافة إلى إتمامه لدراسته في العلوم المالية، لينتسب إلى المعهد الطبي العربي في دمشق ليتخرج منه طبيباً عام 1946، ليحترف مهنة الطب كطبيب في شعبة الأطفال في شباط عام 1948.

دفعته طموحاته العلمية ليغترف من منهل البحث العلمي في جامعتي باريس وجنيف ليعود فيما بعد إلى موطنه مختصاً في مجال طب الأطفال الذين كان لهم الحظوة في حياته التي سخرها لمعالجة السقيم منهم.

أحب الدكتور سهيل الطفولة فنذر حياته لخدمتها من خلال أبحاث ودراسات علمية قدمها للوصول بطب الأطفال نحو الأمثل والأفضل من خلال ثوابت علمية غرسها في أذهان تلامذته الذين حملوها معهم أينما حلوا.
عرف عن الدكتور سهيل ولعه الشديد بتقديم كل ماهو جديد في علم طب الأطفال، فبالإضافة إلى ممارسته مهنة الطب، عمل على تحصيل كل ماهو جديد فشغف بالبحث، وأجاد في مهنة التدريس من خلال أسلوبه المتميز بطريقة مبتكرة في منهجية البحث العلمي،  ومنذ خمسنيات القرن الماضي كان محاضراً متألقاً على منابر كلية طب دمشق، محاضراً قل نظرائه بما يقدمه من زخم علمي ودعم لتلامذته من خلال الوقوف على تخريج دفعات متتالية من خريجي مدرسة طب دمشق.

للمترجم له؛ مؤلفات عدة في طب الأطفال، كان أهمها أول مؤلفاته الذي اعتمدته جامعة دمشق كتاب أساس يدرسه من يرفد الجامعة حتى اليوم، وتأتي أهميته من تتبع أطباء كثر  المنهجية العلمية في مؤلفاته خلال تقديمهم لمؤلفات علمية تدور في فلك طب الأطفال.

للدكتور سهيل حضور متألق دائم التواصل مع كل تطور يخص مجاله فكان مشاركاً في:

1.    تأسيس جمعية طب الأطفال في سورية.

2.    ترأس مؤتمر اتحاد جمعيات أطباء أطفال الشرق الأوسط والبحر المتوسط لعام 1988.

3.    شغل منصب رئاسة البورد العربي لطب الأطفال فكان رئيس اللجنة الإمتحانية فيه.

4.    أسهم في ارتقاء وازدهار وتوسع هذا النوع من الاختصاص على الصعيد العربي.

5.    ترأس الهيئة التدريسية في جامعة دمشق بعد وفاة أستاذه المغفور له الدكتور جميل سالم.

وطوال حياته عمل جاهداً على تطوير قسم الأطفال وذلك بنقله من جناح صغير يضم 17 سريراً في بناء دار التوليد القديم ليصبح قسماً مستقلاً في بناء المشفى الوطني ليصبح عدد أسرته 62 سريراً مع زيادة الطاقم الطبي والكوادر المساعدة؛ لينتقل بعدد العاملين من 2 إلى 10 أطباء، مؤكداً العمل بتطوير الخدمات اللازمة لهذا القسم، باستقدام خبرات أجنبية للاستفادة من خبراتها في تطوير وتفعيل الكادر الموجود، هذا بالإضافة إلى إقامة جلسات علمية دورية تخص طب الأطفال مفتوحة لكافة الأطباء .

وبجهوده الخاصة استطاع الحصول على موافقة رئاسية لبناء مشفى خاص بالأطفال تابع لجامعة دمشق، وعليه دأب بدورة على الإشراف والتوجيه مستعيناً بخبرات فرنسية متخصصة ببناء وتجهيز مشافي الأطفال؛ وخلال خمس سنوات ونيف كان حاضراً في الموقع يشرف ويوجه يعيش لحظات اكتمال مشروعه المتألق مشفى الأطفال الحالي بدمشق. الذي مازال جاثماً يحمل بصماته في التخطيط والتنفيذ والافتتحاح الذي تم عام 1988.

هذا بالإضافة على مشاركته الفعالة في وضع وإقرار النظام الداخلي لضمان الإدارة المستقلة مع الارتباط الأكاديمي لجامعة دمشق، وعليه بات هذا الصرح الجديد صرح علمي؛ حيث  تبوء بدورة رئاسته لسنوات عمل خلالها جاهداً لتقديم خدمات طيبة مجانية وخاصة لكل طفل بحاجة للرعاية الطبية.

ونظراً لاتساع المشفى. زيدت أعداد الطواقم الطبية لتغطي معظم اختصاصات طب الأطفال الفرعية.

كذلك حرص على إقامة دورات طبية تدريبية لتوسيع مهام طاقم التمريض؛ وسعى لاستقدام خبرات تمريض وإيفاد البعض لاكتساب خبرة في جوانب ا تمريض الأطفال، مدعماً ذلك بالعمل على زيادة التجهيزات بقدر ماتسمح المخصصات المالية.

كان رحمه الله محباً لمهنته مستنيراً بالعلم رفيق دربه وعليه عمل جاهداً لإنشاء مكتبة ضمن مشفى الأطفال زودت بالمصادر وبأحدث المراجع لتكون عوناً للناشئة من أطباء الأطفال هذا بالإضافة إلى سعيه لفتح قاعات ومدرجات عدة لتصبح مشفى الأطفال بذلك موئلِ علم يستقبل طالبي العلم مع اختلاف جنسياتهم.

وأخيراً

 عشق الدكتور المرحوم سهيل بدورة مهنته وعمل طوال حياته على خدمة مواطنيه وحتى بعد تقاعده لم يحجب خدماته حيث استمر في العمل، وكما هو الدكتور المرحوم فيصل الصباغ أبو الطب العصبي في سورية فإن الدكتور بدورة كان أباً لطب الأطفال فيها، فأينما حل كان نبراس كل جديد في مجاله، مقدماً جهود لاتحصى في سبيل تطوير مابدأه أطباء الأطفال الذين سبقوه واضع أسساً متينة لطلابه يقفوا عليها في سبيل خدمة الوطن والمواطنين.

شهد تخرج مئات الأطباء ممن حملوا فكره العلمي ومنهجه، منتشرين في بقاع العالم حاملين معهم أصالة بلدتهم دمشق وفكر الدكتور بدورة أينما حلوا.

يبرهن على ذلك مارواه شاهد عيان عن رحلة علاجية للدكتور بدورة الذي قصد الولايات المتحدة- شيكاغو، حيث قال وكان الطبيب المعالج تلميذاً سابقاً له، لينتقل الخبر سريعاً بوفادته المشفى، ولم تمض ساعات إلا وغصت المشفى بجمهرة من الأطباء السوريين المقيمين هناك، والذين كانوا في الغالب تلامذته في وطنهم الأم في طب دمشق، ويذكر نجله الدكتور جابر بأنه دهش لرؤية والده يسير وسط ثلة من أميز الأطباء يحيطون به فخورين لكونهم يرافقون أستاذهم المعلم.

للدكتور بدورة مواقف جريئة، تدل على تفانيه في خدمة الواجب فإن أحداث معينة لم تثنه عن مرضاه ليصيبه طلق ناري عام 1963أثناء مغادرته لمنزله قاصداً المشفى لوجود حالة انسانية تستوجب وجوده.

كان رحمه الله جريئاً في الحق جريئاً في طلب العلم وتلقينه.

كان مواطناً سورياً بامتياز، حمل هموم أمته، التي قدرت جهوده فأعطاها هو بدوره حبه وحياته بكبير قدر من التقدير والامتنان وذلك من خلال أدائه لواجبه تجاهها على أكمل وجه.

إلا أن الوقت قد أزف وكان لابد له أن يرفد أديم دمشق الذي ضمه عام 2005 بكل مودة وتقدير، وهناك ووري الثرى ليتوارى عن الأنظار أستاذاً كبيراً وعالماً قديراً وإدارياً متمكناً افتقدته بلاد الشام وافتقده مواطنيه في دمشق مسقط رأسه، إلا أن الدكتور بدورة لم يرحل فهو الغائب الحاضر، غائب بجسده، حاضر بروحه التي حملها تلامذته المتناثرين في بقاع مختلفة من العالم.

وتقديراً لجهوده أطلق اسمه على مدرج من مدرجات جامعة دمشق.

رحمه الله – فقد كان نبراس علم لا يبنض  










الجمعة، 8 يوليو 2011

المواطنة


جيل جميل حمل حقوق المواطنة

يعود تاريخ مبدأ المواطنة إلى تاريخ كفاح وسعي الإنسان من أجل نيل حقوقه وإنصافه  وفق مبدأ العدالة والمساواة.

وعليه فالمواطنة كقيمة إنسانية، موجودة في نصوص أغلب الديانات السماوية والشرائع الأرضية، التي أقرت على أن سعي الإنسان إلى توكيد إنسانيته وحقوقه أمراً لابد منهُ في ظلَّ أُسس الأنصاف والعدالة والمساواة، على أن تكون الحرية والعدالة والمساواة، أولى الاستحقاقات الأساسية لوجود الإنسان الحقيقي لكونها مقومات البناء العضوي للدولة الناجحة المستندة على الشرعية الحقيقية، التي تقر بأن حقوق المواطنة ركناً ثابتاً ومهماً من أركان الدستور فيها.
وعليه تكون المواطنة في أبسط معانيها هي الوعي بقيمة التعايش مع الآخر في إطار مجتمعي يضمن من خلالها الفرد حقوقه ويحدد واجباته، فالمواطنة بحسبانها قيمة إنسانية، ليست بدعة جديدة، بل كانت موجودة بالقوة في نصوص أغلب الديانات السماوية والشرائع الأرضية، لكن ملامحها لم تتبلور بالفعل إلاّ في نهايات القرن العشرين، إذ تجسَّدَ ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، واتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، واتفاقية حقوق الطفل (1980).

إن الانتماء الحقيقي يوجب على المنتمي الإخلاص لوطنه، والعمل على حمايته والدفاع عنهُ، والالتزام بوحدته واستقلاله بالذود عن حياضه، ورفض أي تبعية أو هيمنة، على أن يكون ولاءه وإخلاصه خلصاً للوطن ، ولكونه  مواطناً صالحاً، يتوجب عليه المشاركة بالنهي عن المنكر والفساد في المجتمع، والعمل على المشاركة لإنهاء الحالات غير الحضارية.

لطالما قدمت بلاد الشام عبر تاريخها مواطنين أكفاء استطاعوا حمل عبء انتماءهم إليها، في وقت عصيب احتاجت فيه إلى أبناء أقوياء،  حيث أنجبت سورية أجيالاً فاخروا بعروبتهم، وحملوا هموم الأمة العربية، وتسلحوا بالقلم والبندقية، في سبيل الزود عن أوطانهم والحفاظ على الكرامة العربية.

 في خضم الأحداث الجسام لتلك الفترة وقفت ثلة من النسوة السوريات إلى جانب الرجل، مناضلات مكافحات في سبيل الاستقلال والحرية والوحدة العربية، شاركن في الحياة الحربية والأدبية والثقافية، مما أدى إلى فتح الباب أمام مشاركة المرأة في الحياة العامة، التي قادت فيما بعد إلى مشاركتها في الحياة السياسية، وإن كانت تلك المشاركة لا ترقى حتى اليوم إلى مستوى مرض أو مقبول.

لم يكن اندفاع المرأة في سورية للمشاركة في الحياة العامة قوياً في ذلك الزمن الصعب، لكنها استطاعت أن تشق طريقها متحدية مجتمع له فكر وتقاليد راسخة، فوقفت مجموعة من الرائدات اللاتي اقتحمن الحياة العامة عنوة، وناضلن في سبيل عزة ورقي الوطن ورغم أن نشاطهن الأساسي تركز في الصالونات الأدبية والمجلات النسائية، إلا أن مشاركتهن في الهموم العامة والحياة السياسية تركت بصمة واضحة لا يمكن إنكارها.

منهم على سبيل المثال  نازك العابد التي سطرت أروع البطولات, معتمدةً على وطنية مثالية وشجاعة نادرة، قاتلت المستعمر الفرنسي , وأسست الجمعيات النسائية , وأسست مجلة نور الفيحاء , وشاركت في تأسيس الهلال الأحمر، ونفيت من البلاد لأنها امرأة تصنع التاريخ نازك العابد ولدت عام 1887 من أسرة دمشقية عريقة , والدها مصطفى باشا العابد من أعيان دمشق تولى متصرفيّة الكرك وولاية الموصل في أواخر العهد العُثماني, والدتها فريدة الجلاد , أتقنت الفرنسية, والإنكليزية , والألمانية, إضافة للعربية التي أتقنت سحرها, واتخذت من مجلتي العروس ( وهي أول مجلة صدرت في سورية لصاحبتها ماري عجمي ) والحارس منبرا لآرائها وأفكارها المتنورة التي سبقت عصرها،  شاركت في المؤتمرات النسائية والوطنية في كل من سوريا ومصر ولبنان، كما شاركت في العديد من المؤتمرات النسائية الدولية، أسست وترأست عقب الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين عام 1916 ضد الأتراك , جمعية نور الفيحاء لمساعدة ضحايا هذه الثورة, وأصدرت عام 1920 مجلة نور الفيحاء التي سخرتها بهدف النهوض بالمرأة, ثم أسست النادي النسائي الشامي الذي ضم نخبة سيدات الشام المتنورات, منحت رتبة نقيب في الجيش زمن الملك فيصل نتيجة مواقفها البطولية , وكانت بصحبة وزير الدفاع السوري البطل يوسف العظمة حين خطا إلى ميسلون ليسطر أروع ملاحم البطولة, وليرسم إلياذته الخالدة في حب الوطن, ويقال أن هذا البطل حين أصيب في ملحمة ميسلون, واسلم الروح الطاهرة, كان بين يدي نازك العابد التي كانت تتفقد الجنود بلباسها العسكري  وبعد دخول المستعمر الفرنسي إلى دمشق لم ير بد من نفيها عن الوطن نتيجة مواقفها الوطنية ومشاركتها في معركة ميسلون,  فأبعدت إلى اسطنبول لمدة عامين ( 1920 – 1922 ) ولم تمض سنوات إلا وعاد المستعمر لنفيها مرة أخرى إلى الأردن, وحين تعهدت بعدم ممارستها للعمل السياسي,  سمح لها بالعودة ثانية إلى دمشق, فاختارت غوطتها لإقامتها فاختلطت بالفلاحين فكانت تساعدهم في العمل الزراعي وتحضهم على الثورة ضد المستعمر, ونشبت الثورة عام 1925 فكانت احد ثوارها تعمل بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال

ومنهم ماري عجمي، مشت في مسيرة الكفاح والنضال ضد المستعمر العثماني، أسست عام 1910 مجلة ( العروس ) وأسست جمعيات نسائية عدة، اتضحت مسيرتها النضالية حين التقت بالمناضل بترو باولي، الذي أعدم مع مجموعة الشهداء في 6 أيار، مما أجج الغضب والحقد في نفسها على الاستعمار، فازداد نضالها حماسة، وفيما بعد واجهت ماري عجمي الاستعمار الفرنسي بنفس الروح النضالية، ورفضت كل محاولات رشوتها واستمالتها
عادلة بيهم الجزائري التي شاركت في النضال السياسي ضد العثمانيين، وحمت هي ورفيقاتها أناسا كثيرين من أعواد المشانق التركية، كما قال الدكتور أحمد قدري الترجمان، أحد الثوار، وأسست عدة جمعيات نسائية، لأهداف سياسية في المرحلة الأولى، ثم لأهداف ثقافية واجتماعية، وذلك عندما أسست عام 1933 ( الاتحاد النسائي العربي السوري ) الذي ضم عشرين جمعية نسائية.

وهكذا ومما سبق اتضح أن مساهمة المرأة في الحياة السياسية بدأت خجولة في نهايات عهد الاستعمار العثماني وبدايات القرن العشرين،حيث اقتصرت على مساعدة المناضلين وتخبئتهم عن أنظار المستعمر، دون مشاركة جدية فاعلة في الحياة السياسية، إلا أن حادثة إعدام شهداء 6 أيار، الذين كانوا من خيرة رجال وشباب الوطن، دفع المرأة على ما يبدو أكثر من قبل للتفاعل مع مجريات الأحداث السياسية، وإن بقي ذلك محدودا ، ولم تظهر في سورية في تلك الآونة حركة نسوية واضحة الأهداف والمعالم كما في مصر.

وبين عامي ( 1920 – 1946 )، مرحلة الانتداب الفرنسي، بدأت النسوة بالمطالبة بحقوق المواطنة، فازدادت مطالب حركة تحرر المرأة تتصاعد، وغدت مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية أكثر وضوحاً، وكمثال على الفكر النهضوي لابد للبحث من التطرق إلى بعض الأسماء الهامة التي تابعت المطالبة بتحرر المرأة كالرائدة مقبولة الشلق 1921-1986؛ وثريا الحافظ ، ممثلة جيل ولد في قلب دمشق..ونذر نفسه للوطن والعروبة، كانت من أبرز نساء جيلها مع ألفة عمر باشا الإدلبي، وجيهان موصلي،  اللواتي قارعن الاستعمار وساهمن مع غيرهن على خلفية نضال المجاهدين في صنع علائم النصر وإخراج المستعمر من أرض سورية، شجعها على ذلك المناخ النضالي المفعم، وزوجها المجاهد منير الريس صاحب (الكتاب الذهبي) والقلم الجريء، الذي آزرها وشد من عضدها، مما مكنها من تأسيس العديد من الجمعيات والمنتديات، وعلى رأسها منتدى سكينة الأدبي، الذي نثرت من على منبره بذور المعرفة، وحاضر فيه كبار مثقفي ومفكري الوطن العربي وهي تقف صامدة لا مبالية، كانت ثريا تساعد الناس وتشعر بهم، وهم بالتالي يشعرون بها أثناء الحاجة، قدّرها الجميع واحترمها، عملت جاهدة للحفاظ على حقوق مواطنيها من خلال نشر بذور الفكر الواعي الحر، حين قالت لم ندخر جهداً أنا ومثيلاتي من المناضلات لإيصال ما نريده إلى أكبر عدد ممكن من النساء فمن أحاديث في الإذاعة إلى محاضرات في الأندية، إلى توجيهات من خلال الجمعيات المؤسسة آنذاك: جمعية نقطة الحليب، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمات، دوحة الأدب، جامعة نساء العرب القوميات، الرابطة الثقافية النسائية، منتدى سكينة الأدبي، النادي الأدبي النسائي، ومن خلال الاتصال المباشر بالنساء عن طريق المقاومة الشعبية للمرأة عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر) إضافة إلى تمريض جرحى المظاهرات ضد المستعمر الفرنسي، ومواساة أسر الشهداء، ورعاية أطفالهم مادياً ومعنوياً، وقد افتتحت جمعيات خريجات دور المعلمات حينها ميتماً تحت اسم (دار كفالة الفتاة) ابتدأ بعشرين يتيمة وانتهى بحوالي أربعمائة، يقدم لهن التعليم والرعاية حتى يكبرن ويعتمدن على أنفسهن، كذلك توجيه النساء لممارسة حقهن المشروع في ممارسة حق الانتخاب، ثم حق الترشيح، وقيامها فيما بعد مع بعض رفيقات دربها النضالي بتأسيس جمعية رعاية الجندي عام 1956، ليقمن بعدة زيارات للجنود في مواقعهم، وتقديم الهدايا لهم، تاهيك عن حفلات الترفيه، وزيارة المرضى من المجندين في المستشفيات لتقديم المواساة.

وحول التوعية العملية التي كانت تفاخر بها باستمرار، قيامها على رأس مئة سيدة برفع النقاب عن وجوههن في مظاهرة تحررية ، كانت أول امرأة سورية رشحت نفسها لانتخابات عامة، وأول من حملت بندقية ورشاشاً في المقاومة الشعبية.

أقامت عام 1946 صالونها الأدبي (حلقة الزهراء الأدبية) الذي أقيم في منزل زهراء العابد زوجة رئيس الجمهورية آنئذ، لصغر مساحة منزلها، لا يتسع لإقامة مثل هذا النوع من الصالونات الثقافية.

وعليه إذا ذكرنا تاريخ النضال النسوي والكفاح المرير بعد العهد العثماني لرأيناها المناضلة الجريئة الأولى.. فهي بطلة المظاهرات وخطيبة الجماهير في ساحات الثورات، وهي التي لا يعرف الخوف إلى قلبها سبيلا ، أحبت لغتها، وعشقت قوميتها، وسارت في خدمة أمتها في مختلف المجالات، وكان في أحاديثها صراحة وجرأة.. إن من يقرأ كتاببها (حدث ذات يوم) و (الحافظيات) يطلع على نضال المرأة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وعلى كفاح الفتيات اليافعات ضد الطغيان، ويعرف أن الأمة التي أنجبت خولة بنت الأزور، وأسماء.. أنها أنجبت أيضاً نساء في قلب دمشق نذرن نفوسهن لخدمة العروبة. أنها تعكس لك الأحداث كشريط ينساب أمامك بعفوية صاحبتها، بإخلاصها لأفكارها الاجتماعية والسياسية، بتمسكها بقيمها ومعتقداتها وصفاء نفسيتها، إنها أم جيل عشق الحرية والنضال.

استقلت سورية في 17 نيسان 1946، وشاركت النساء في احتفالات الجلاء التي أقيمت كل عام في ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي، هذا الإنجاز التاريخي جاء نتيجة حتمية للنضال المتفاني السياسي والجماهيري السلمي والمسلّح الذي خاضته فئات شعبنا كلها على امتداد ربع قرن، والذي جسّد إرادة شعب وقضية وطن، عبّر فيها الشعب السوري عن عمق الانتماء لوطنه، والإيمان بالحرية والعدالة، وكانت الوحدة الوطنية التي تجلت بكل معانيها عاملاً أساسياً في تحقيق النصر, ولا يستطيع احد نكران الدور الهام والبطولي الذي قامت به المرأة السورية في مقارعة الاستعمار,  وذلك من خلال العديد من الأسماء النسائية كنازك العابد, و زينب الغزاوي, رشيدة الزيبق, سارة المؤيد العظم، ومنيرة المحايري، وثريا الحافظ، ويسرى ظبيان، وزهيرة العابد، وسنية الأيوبي، وجيهان موصللي، وبلقيس كردعلي, والشهيدة سلمى بنت محمد ديب قرقورة وغيرهن كثيرات.
وأخيراً أدى شعور المواطنة لدى النساء السوريات إلى تجاوز العادات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك، للوصول إلى حق مشروع،  هو  مشاركة المرأة الرجل في حق حماية وصون الوطن ، وصولا لنيل الحرية والاستقلال.